الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( أ ) التأصيل التربوي عند: الإمام تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني

توفي ابن تيمية رحمه الله سنة 728 هـ، مما يعني أن حركته الإصلاحية قد ترعرعت، ونضجت خلال بداية القرن الثامن الهجري، مما سيكون له أثر على تلامذته، الذين عاشوا إلى نهاية القرن المذكور. ومجمل مشروع ابن تيمية التربوي، كما يقول الحجوي يقوم على: " فهم حقيقة الدين الإسلامي، وتجريده عن زوائد الابتداع، وإخلاص الدعوة للتوحيد الحق، وترك المغالاة في تعظيم المخلوق، كي لا يلحق بالخالق... واستقلال الفكر في فهم الشريعة من كتاب، وسنة، وقياس، واتباع السلف، ونبذ المحدثات.. على هـذا تدور سائر كتبه، وهذا ما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم ، فهو من المجددين " [1] .

حقا لقد كان ابن تيمية رحمه الله، أمة وحده ذلك أن عصره قد شهد سيطرة التقليد بصورة مخيفة إلى درجة استسلام ذوي العقول والأذكياء من العلماء لهذه المقولة، التي نظمها أحدهم في قوله:


لم يدع من مضى للذي غبر فضل علم سوى الأخذ بالأثـر [2] .

ومع ذلك، فقد استطاع ابن تيمية، أن يزحف ضد تيار التقليد الواسع، ويحقق انتصارا على المقلدة، بنفي جميع الوساطات الفكرية ، عقديا وفقهيا، والروحية، سلوكيا وتربويا، ويؤسس جيلا من التلاميذ، الذين حملوا راية التوحيد بعده، رحمه الله. [ ص: 115 ]

وقد انطلق في مشروعه من تأسيس مصدر التدين على الكتاب والسنة. وأكد على هـذه المقولة في جميع كتبه وفتاويه، وقلما يحكم في مسألة، دون أن يذكر بهذا المبدأ التوحيدي الأصيل.. ومن كلامه الجامع في ذلك، قوله: " فأحسن الحديث، وأصدقه كتاب الله، خبره أصدق الخبر، وبيانه أوضح البيان، وأمره أحكم الأمور، ( فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) [الجاثية:6]، وكل من اتبع كلاما، أو حديثا مما يقال: إنه يلهمه صاحبه، ويوحى إليه، أو أنه ينشئه ويحدثه، مما يعارض به القرآن، فهو من أعظم الظالمين ظلما " [3] فنفى بذلك كل مصدرية للتدين، مما سوى النص الشرعي، كأذواق المتذوقين، وأوراد المتصوفين ، ومثل هـذا كثير متواتر في مصنفاته رحمه الله، ثم بين أن منهج التدين إنما يؤخذ على طريقة أهل الحديث، لكن ليس بالمعنى الشائع لمصطلح (أهل الحديث) ، بل بمعنى العلماء الذين يأخذون مفاهيمهم وفتاواهم من فقه الحديث، باعتباره القناة الأضبط لاستنباط أحكام القرآن. فأهل الحديث هـم المنضبطون بنصوص الشرع، فهما، واستنباطا. وفي ذلك يقول رحمه الله: " ونحن لا نعني بأهل الحديث: المقتصرين على سماعه، أو كتابته، أو روايته، بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه، ومعرفته، وفهمه، ظاهرا وباطنا، واتباعه باطنا وظاهرا، وكذلك أهل القرآن. وأدنى خصلة في هـؤلاء محبة القرآن والحديث، والبحث عنهما، وعن معانيهما، والعمل بما علموه من موجبهما " [4] . [ ص: 116 ]

وتحت راية القرآن، والسنة، قام ابن تيمية ، يحارب كل أشكال الوساطات، وكان اهتمامه بالعقيدة، باعتبارها أساس التعبد غالبا، فحارب الوساطة الكلامية ، بدءا بالمفاهيم والمصطلحات، وانتهاء بالمناهج والأحكام، ذلك أنه رفض تسمية علم الكلام بـ : (أصول الدين) باعتبار هـذا المصطلح، يضفي من المشروعية على عقائد المتكلمين، ما يجعلها في قداسة العقيدة القرآنية، كما هـي في نصها المنزل.. ومعلوم أن صيغ الكلام، والمنظومات المركبة منها في الاعتقاد، ما هـي إلا اجتهاد قابل للخطأ والصواب.. قال ابن تيمية رحمه الله: " إن طائفة من أهل الكلام يسمى ما وضعه: (أصول الدين) ، وهذا اسم عظيم، والمسمى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم... وعامة هـذه الضلالات، إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة " [5] ومعلوم أن العقيدة الأشعرية، كانت عقيدة التدين الجماهيري في عصره، ولذلك فقد حاول نزع القداسة عنها، واعتبارها من الطوائف الضالة عما رسمه القرآن الكريم، والسنة النبوية، وحشرها مع الجهمية ، والمعتزلة ، والخوارج ، والرافضة ، رغم قرب التصورات الأشعرية إلى السنة، على حد تعبيره رحمه الله، حيث قال: " السنة، والشريعة، والمنهاج هـو الصراط المستقيم الذي يوصل العباد إلى الله... وقال عبد الله بن مسعود : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: هـذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: ( وأن هـذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) [الأنعام:153]. [ ص: 117 ]

وإذا تأمل العاقل الذي يرجو لقاء الله هـذا المثال، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج ، ثم المعتزلة ، ثم الجهمية ، والرافضة ، ومن أقرب منهم إلى السنة، من أهل الكلام، مثل الكرامية ، والكلابية ، والأشعرية ، وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل، يخرج به عما عليه الصحابة، وأهل الحديث، ويدعي أن سبيله هـو الصواب، وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم الذي لا يتكلم عن الهوى إن هـو إلا وحي يوحى " [6] .

وابن تيمية ، يعلم أنه بفعله هـذا، سوف يغضب أشاعرة عصره، وهم أكثر فقهاء المذاهب المتصدين للفتوى، والدفع عن المذهب الفقهي والعقدي، من شافعية ، ومالكية ، وغيرهما، ولذلك فقد بين وجه التمايز والتباعد، بين العقيدة الأشعرية، والعقيدة السلفية، أو عقيدة التوحيد، وبين ذلك في مواطن متعددة حتى يوضح للناس أن اجتهاد أبي الحسن الأشعري وأتباعه، ليس بالضرورة هـو عقيدة القرآن والسنة بالتمام والكمال حتى يصير دون غيره هـو عقيدة التدين العام.. قال رحمه الله:

" يوضح ذلك أن كثيرا من أصحاب أبي محمد ، من أتباع أبي الحسن الأشعري، يصرحون بمخالفة السلف في مثل مسألة الإيمان، ومسألة تأويل الآيات والأحاديث، يقولون: (مذهب السلف: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وأما المتكلمون من أصحابنا، فمذهبهم كيت وكيت) .. وكذلك يقولون: (مذهب السلف: أن هـذه الآيات، [ ص: 118 ] والأحاديث الواردة في الصفات لا تتأول، والمتكلمون يريدون تأويلها إما وجوبا، وإما جوازا) ... هـذا منطوق ألسنتهم، ومسطور كتبهم، أفلا عاقل يعتبر؟ ومغرور يزدجر؟... وأيضا فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة، وأقول المتكلمين تارة، كما يفعله غير واحد، مثل أبي المعالي الجويني ، وأبي حامد الغزالي ، والرازي وغيرهم... فلا يثبتون على دين واحد، وتغلب عليهم الشكوك. وهذا عادة الله فيمن أعرض عن الكتاب والسنة " [7] .

ولم يكتف ابن تيمية ببيان فساد المنظومة الكلامية في الاعتقاد من الناحية المبدئية فقط، بل بين سلبيتها من حيث آثارها التربوية في إصلاح تدين الناس، وترسيخ إيمانهم ذلك أن التربية إنما تؤتي أكلها، ونفعها الإيماني إذا كانت بنصوص القرآن والسنة، وأن الاعتقاد بما تضمنه النص الشرعي مأخوذا بنصه المتعبد بتلاوته، هـو الذي يعطي الإيمان، ويذكي جذوته في القلوب، ويرتقي بالفرد من هـاوية الشك والاضطراب، إلى مقام اليقين. وتلك خاصية التربية التوحيدية كما بينا من قبل، وفي ذلك يقول ابن تيمية:

" ما زال أئمتهم، يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم، كما ذكرناه عن أبي حامد وغيره، حتى قال أبو حامد الغزالي: (أكثر الناس شكـا عند الموت أهل الكلام ) ... فأما ما أوتيه علماء أهل الحديث، وخواصهم، من اليقين، والمعرفة، والهدى، فأمر يجل عن الوصف، ولكن [ ص: 119 ] عند عوامهم من اليقين، والعلم النافع، ما لم يحصل منه شيء لأئمة المتفلسفة المتكلمين، وهذا ظاهر مشهود لكل أحد " [8] كما تصدى كذلك إلى مظاهر الوساطة الروحية في الأمة، محاربا اشتراط الوسطاء في السلوك إلى الله، والتعبد بناء على مصادر وهمية لا تحتكم إلى نص معلوم، كواردات الأذواق، وشطحات الأحوال، ومظاهر التدين الفلسفي، من مقولات المتصوفة ، الذين استتب الأمر لأشياخهم، وطرقهم، في زمانه رحمه الله، فهاجم أبا حامد الغزالي ، من حيث إنه لم ينضبط لنصوص الشرع، إنما كان يستقى من الفلسفة التي هـاجمها وحاربها، ولذلك قال فيه:

" وأبو حامد الغزالي يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف ، والعبارات الإسلامية، ولهذا رد عليه علماء المسلمين حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي ، فإنه قال: شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم، فما قدر " [9] وأنكر أن يعتمد الغزالي على الأذواق، والمكاشفات، لتفسير النصوص الشرعية على مقتضاها فتكون بذلك حاكمة على القرآن والسنة لا محكومة بهما، وهذا عين الوساطة، كما ذكرنا. قال رحمه الله: [ ص: 120 ] " فإن أبا حامد، كثيرا ما يحيل في كتبه، على ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد أنه يوجد للصوفية والعباد برياضتهم، وديانتهم من إدراك الحقائق، وكشفها لهم حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشرع " [10] ويرجع ابن تيمية سبب انحراف الغزالي ، رغم ذكائه عن جادة التدين السني، والتربية التوحيدية، إلى ضعفه في معرفة الحديث النبوي من جهة، وإغراقه أكثر أيام عمره في طلب المعارف الفلسفية والكلامية ، التي ركبت في نفسه عقدة ذم أهل الحديث والمحدثين من جهة أخرى.. فلم يستطع رغم معرفته ببطلان الفلسفة أن يتخلص من آثرها في هـذا الشأن، وفي هـذا يقول ابن تيمية:

" وسبب ذلك أنه علم بذكائه، وصدق طلبه، ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة من الاضطراب... فيجد في كلام المشايخ والصوفية ما هـو أقرب إلى الحق، وأولى بالتحقيق من كلام الفلاسفة والمتكلمين، والأمر كما وجده، لكن لم يبلغه من الميراث النبوي الذي عند خاصة الأمة من العلوم والأحوال، وما وصل إليه السابقون الأولون من العلم والعبادة... لانسداد الطريقة السنية النبوية عنه، بما كان عنده من قلة العلم بها، ومن الشبهات التي تقلدها عن المتفلسفة والمتكلمين، حتى حالوا بينه وبين تلك الطريقة، ولهذا كان كثير الذم لهذه الحوائل، ولطريقة العلم! وإنما ذاك لعلمه الذي سلكه، والذي حجب به عن حقيقة المتابعة للرسالة، وليس هـو بعلم إنما هـو عقائد فلسفية وكلامية " [11] .. وهكذا يكون الغزالي في نظر ابن تيمية، متكلما متفلسفا، في لباس المتصوف، ليس إلا! [ ص: 121 ]

ثم يلتفت ابن تيمية بعد ذلك إلى متصوفة عصره، منكرا ما وصلوا إليه من انحراف في الفهم والتطبيق للدين، وما نصبوه من وسطاء في التربية.. وأنكر عليهم أن تتضمن طرقهم أسرارا، لا تتضمنها النصوص القرآنية والحديثية. قال رحمه الله: " وقد رأيت من أتباع هـؤلاء طوائف يدعون أن هـذه الأمور من الأسرار المخزونة، والعلوم المصونة.. وخاطبت في ذلك طوائف منهم، وكنت أحلف لهم أن هـذا كذب مفترى، وأنه لا يجري من هـذه الأمور شيء " [12] .. أي أنه لا يجري منها شيء شرعا، ولا واقعا، وإنما هـي تخييلات إبليسية ليس إلا.. ومنها ما اعتقدوه في أشياخهم ورجالهم من كرامات تفوق ما عرف شرعا من المعجزات النبوية! قال في ذات السياق:

" فإن شيخهم الذي هـو عارف وقته، وزاهده عندهم، كانوا يزعمون أنه هـو المسيح الذي ينزل، وأن معنى ذلك نزول روحانية عيسى عليه السلام ، وأن أمه أسمها مريم، وأنه يقوم بجمع الملل الثلاث، وأنه يظهر مظهرا أكمل من مظهر محمد ، وغيره من المرسلين! ولهم مقالات من أعظم المنكرات، يطول ذكرها ووصفها " [13] وحارب بعد ذلك العقلية الاستهلاكية والاستسلامية لدى الشباب والمريدين، كما حارب تقديس مقولات الأشياخ وشطحاتهم، واعتبارها من الأسرار والعلوم اللدنية التي لا يجوز ردها، ولا مناقشتها! [ ص: 122 ] قال: " وهذا كثير ملأ العالم، تجد كل قوم يدعون من الاختصاص بالأسرار والحقائق ما لا يدعي المرسلون، وأن ذلك عند خواصهم، وأن ذلك لا ينبغي أن يقابل إلا بالتسليم " [14] .

ولم يكن ينكر على الصوفية طلبهم الوصول إلى أعلى المقامات الإيمانية، ولا حبهم للزهد والعبادة، وإنما كان يشترط أن يكون كل ذلك من مشكاة القرآن والسنة، أو بعبارة أخرى أن يأخذوا مسلك التدين والتربية عبر المنهج التوحيدي، والارتباط المباشر بنصوص الإسلام، لا عبر المنهج الوساطي، والارتباط بالشطحات والأشياخ، قال رحمه الله: " كان كثير من أرباب العبادة، والتصوف يأمرون بملازمة الذكر، ويجعلون ذلك هـو باب الوصول إلى الحق، وهذا حسن إذا ضموا إليه تدبر القرآن والسنة، واتباع ذلك " [15] .

وهكذا نجد ابن تيمية ، المصلح والمربي، يدخل في معركة متعددة الجبهات، ويحارب على مختلف الواجهات، دفاعا عن مصدرية القرآن والسنة، ودحضا لكل وساطة، مهما كان شكلها، وصاحبها! مما ألب عليه خصومه من المذاهب، والطرق، وسلطان زمانه، الذي أدخله سجنه حتى مات فيه رحمه الله! لكنه ترك لنا تراثا ضخما، يؤصل فيه للمنهج التوحيدي، في مجال التدين، وتربية الناس عليه، شكل مادة مرجعية هـامة، للحركات الإصلاحية التي جاءت بعد. [ ص: 123 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية