الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( ب ) التأصيل التربوي عند: الإمام أبي إسـحاق الشـاطبي

أما الإمام أبو إسحاق الشاطبي ، الغرناطي، فقد نهض بمشروعه الإصلاحي التربوي، في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري، إذ توفي رحمه الله سنة 790هـ.

والشاطبي، هـو صاحب المقاصد النظرية الأصولية ذات البعد التربوي، كما سنبين بحول الله، وهو رحمه الله، متأثر بالغزالي ، محيل عليه في أكثر من موطن، في كتاب (الموافقات) ، بيد أنه لم يكن مقلدا له في شيء، بل جاء مشروعه عملا نقديا لمشروع الغزالي الإصلاحي.

إن الشاطبي كان مقلا في التأليف، لكنه ألف كتابين أغنيا عن العشرات من المصنفات، وهما: كتاب الموافقات، وكتاب الاعتصام.

وقد كانت شخصية الشاطبي، المصلح، المربي، حاضرة بهذا المعنى بصورة قوية في الكتابين، رغم اختلاف موضوعيهما في الظاهر، وإلا فهما متكاملان، متوافقان.

أما كتاب الاعتصام، فهو من حيث العنوان، إشارة إلى ضرورة (الاعتصام) بالكتاب والسنة في مجال التدين، ونبذ أشكال الوساطة . وهو بذلك يقابل كتاب الإحياء، للغزالي.. إن الغزالي قد نادى بإحياء علوم الدين، فجاء الشاطبي ليقول: نعم.. ولكن بشرط الاعتصام بالنص الشرعي، وهو ما فقده الغزالي، كما تبين في إحيائه.. ثم إن الغزالي [ ص: 124 ] حاول إعادة تشكيل العقل المسلم، والمنهج العقلاني في الإسلام، من خلال (المستصفي) ، كما بينا، لكن على أساس ضبطه بالمنطق الأرسطي، الذي جعل الجاهل به، لا يوثق بعلومه أصلا [1] .

ثم صنف الشاطبي كتاب الموافقات في أصول الشريعة، على غرار المستصفى، لكن بدل أن يضبطه بالمنطق ، هـاجم هـذا الأخير، واعتبره علما دخيلا يقوم على مقولات تنافي أصول الإسلام.. وضبط المقولات الأصولية بما سماه بـ : (مقاصد الشريعة) ، التي تتنزل لضبط (مقاصد المكلفين) الناشئة بالقلب، فيكون بذلك قد ربط المنهج العقلي في الإسلام بخطرات القلب، ضبطا له حتى يخرج المكلف عن داعية هـواه، ويكون عبدا خالصا لله، كما عبر في أكثر من موطن [2] .. فهكذا يكون مشروعه الأصولي في الموافقات، عملا رائدا في ربط ( الضبط العقلي ) ، بـ: ( العدالة القلبية ) ، كما هـو عند المحدثين، هـو معنى تربوي، قلما رامته المصنفات الأصولية من قبل.

إن (الموافقات) ، وإن كان صاحبه قد عبر أنه حاول التوفيق فيه، بين مذهب المالكية ، والحنفية ، إلا أنه وفق فيه أيضا، بين ظاهر التدين وباطنه، لدى المكلف، أو بعبارة أخرى: عمل على تعميق مغزى التكاليف الظاهرة، وربطها بأصولها من التكاليف الباطنة، وذلك بربط مفهوم [ ص: 125 ] الإسلام بمفهوم الإيمان، ربطا قويا، حتى ينتج عنهما (الإحسان) ، الذي هـو غاية المناهج التربوية، على اختلاف مشاربها وطرائقها في الإسلام، أخطأت أم أصابت.

ولم يسلم للشاطبي هـذا المشروع ويكتمل، إلا بتوحيد المنهج، وذلك بنبذ جميع التأثيرات الوساطية، والاستقلال الحر، عن كل السلط المذهبية والمشيخية، إلا سلطة النص الشرعي، التي أمدته بتجديداته الفائقة، وإشراقاته التوحيدية الرائقة، ذلك المنطق الهادي إلى التوحيد، هـو ما عبر عنه بصراحة، وهو يعد نفسه إعدادا للعمل الإصلاحي، ومواجهة التبعات الدعوية حيث قال في كتاب الاعتصام:

" من علي الرب، الكريم، الرءوف، الرحيم، فشرح لي من معاني الشريعة، ما لم يكن في حسابي، وألقى في نفسي القاصرة، أن كتاب الله، وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول، ولا أبقيا لغيرهما مجالا يعتد، وأن الدين قد كمل، والسعادة الكبرى فيما وضع، والطلبة فيما شرع، وما سوى ذلك فضلال، وبهتان، وإفك، وخسران، وأن العاقد عليهما بكلتا يديه، مستمسك بالعروة الوثقى، محصل لكليتي الخير، دنيا وأخرى، وما سواهما فأحلام، وخيالات، وأوهام " [3] .

وكان رحمه الله، يعلم أنه طريق صعب، في زمان سيطرت فيه البدع، ووسطاءها على الأمة إلا قليلا، وأن التوحيد صار غريبا بين الناس، حتى إنه رحمه الله، بدأ كتاب الاعتصام بحديث: ( بدأ الإسلام غريبا ) الحديث [4] .. [ ص: 126 ] إلا أنه بعد تدبر وتفكر، وجد ألا مناص من الخروج إلى ساحة المعركة، لرفع راية السنة، وإعلاء كلمة التوحيد في الفقه، والتربية والسلوك. قال رحمه الله، واصفا توجسه بادئ الأمر، وما لاقاه بعد ذلك من صعوبة: " فتردد النظر بين أن أتبع السنة، على شرط مخالفة ما اعتاد الناس، فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد... وبين أن أتبعهم، على شرط مخالفة السنة، والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال، عائذا بالله من ذلك، إلا أني أوافق المعتاد، وأعد من المؤالفين لا من المخالفين، فرأيت أن في اتباع السنة هـو النجاه! وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت علي القيامة! وتواترت علي الملامة، وفوق إلي العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة... وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله، المنتصبين - بزعمهم - لهداية الخلق! " [5] .

وهكذا يتبين القصد الإصلاحي، عند أبي إسحاق الشاطبي ، لمناهج التربية، وطرائق التدين السائدة في عصره، والمبنية على المقولات الوساطية ، نظرا لبعد الناس عن الاستسقاء المباشر من كتاب الله، وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام ، كما يتبين مدى ارتباط الناس في المغرب بالوساطات، إلى درجة أن يلقى المصلح، مثل ما ذكر عن نفسه رحمه الله، تماما كما كان حال الأمة في المشرق ، في نفس القرن، كما ذكرنا مع ابن تيمية ! [ ص: 127 ]

وقد كان سلاح الشاطبي رحمه الله، في محاربة الوساطات المختلفة، إيمانه العميق بأن الشريعة عامة شاملة جامعة، وأن نصوصها حاكمة على جميع الخلق، لا يشذ عنهم أحد، فلا خصوصية لفلان، ولا لعلان، وأن كل قول، أو مذهب، أو ذوق، أو إلهام، أو حال، يجب أن يوزن بميزان النص الشرعي، وإلا فلا شرعية له.. وهو مبدأ توحيدي ردده الشاطبي في أكثر من موضع من كتاب الموافقات، وكذا كتاب الاعتصام، فقد ورد في الأول قوله: " الشريعة بحسب المكلفين، كلية عامة، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب، بحكم من أحكامها الطلبية، بعض دون بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة " [6] .. ثم قال بعد البرهنة على هـذا الأصل، بالنصوص القرآنية والحديثية:

" وهذا الأصل يتضمن فوائد عظيمة... منها أن كثيرا ممن لم يتحقق بفهم مقاصد الشريعة، يظن أن الصوفية جرت على طريقة غير طريقة الجمهور، وأنهم امتازوا بأحكام غير الأحكام المبثوثة في الشريعة... ومن ذلك أن كثيرا يتوهمون أن الصوفية أبيح لهم أشياء، لم تبح لغيرهم، لأنهم ترقوا عن رتبة العوام، المنهمكين في الشهوات، إلى رتبة الملائكة، الذين سلبوا الاتصاف بطلبها، والميل إليها... وهذا باب فتحته الزنادقة بقولهم: إن التكليف خاص بالعوام، ساقط عن الخواص.. وأصل هـذا كله، إهمال النظر في الأصل المتقدم! " [7] . [ ص: 128 ]

فهو أساس إذن، مبني على أصل التوحيد في التدين، والتربية على الدين، وذلك لتقريره حتمية الخضوع الشامل للنص الشرعي، والكفر بما سواه من وسطاء، ممن يفتئتون على الشرع، ويزيدون فيه وينقصون حسب أهوائهم، وأذواقهم.. ويجعل هـذا المبدأ منطلقا للرد على أهل الوساطة الروحية ، في كتاب الاعتصام، ليبني عليه بطلان دعاواهم، بضرورة أن الله تعالى وضع هـذه الشريعة حجة على الخلق، كبيرهم وصغيرهم، مطيعهم وعاصيهم، برهم وفاجرهم، لم يختص بها أحدا دون أحد... فأنت ترى أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ، مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته، مما اختص به دون أمته، أو كان عاما له ولأمته... وإذا كان كذلك، فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم، ومنارا يهتدون بها إلى الحق " [8] .

ولقد كرر الشاطبي هـذا المعنى في كتابيه المذكورين، مرات متعددة، في مساقات مختلفة، ولأغراض شتى، حتى لتشعر كأن الرجل كان ينازع من طرف معاصريه، في هـذا الأصل التوحيدي العظيم، ويحارب عليه، فيزداد به تمسكا واعتصاما، وقد كان حجته القاطعة لرد أي انحراف وساطي، في أي مظهر تجلى، وفي أي صورة تشكل، إذ كان ميزانه لمعرفة الحق من الباطل، يتحرى به المنهج التوحيدي في فهم الدين، والتدين به، كما جاء عنه في سياق منع استفادة أحكام التدين من غير نصوص [ ص: 129 ] الشريعة، ومنع كل صورة مخالفة، وإن حاولت التستر بالشريعة بضرب من التحايل، أو الجهل بطرق الرجوع إليها، وفي ذلك يقول رحمه الله:

" وربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي كذا، وأمرني بكذا، فيعمل بها، ويترك بها، معرضا عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ؛ لأن الرؤيا -من غير الأنبياء- لا يحكم بها شرعا على حال، إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية... وإنما فائدتها البشارة، أو النذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا " [9] .

وقد كانت الرؤيا - وما تزال - وسيلة من وسائل المبتدعة، لتبرير وساطتهم، والافتئات على النص الشرعي بالزيادة أو النقصان، أو على الأقل لصبغ اجتهاداتهم التربوية، بنوع من القداسة، وذلك بإسنادها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، ما دام لم يتيسر لهم إسنادها إليه في اليقظة، بالطرق الصحيحة، الصريحة.. ولذلك عمد الشاطبي إلى بيان حدود فائدة الرؤيا شرعا، في مجال التدين والتربية.

هذا، وبما أن الشريعة إذن، هـي المصدر الوحيد للتعبد، والمادة الأساس للتكوين التربوي الإصلاحي، فإنه يتعين أن يكون العلماء بأصولها وفروعها، هـم أدلاء الأمة إلى الخير، ومربوها على الصلاح.. وهنا سيخالف الشاطبي أبا حامد الغزالي ، في تفضيل المتصوفة على سائر الفرق، ويتخذ موقفا شبيها بموقف ابن تيمية ، وذلك بجعل أهل العلم [ ص: 130 ] هم الحاكمين على سائر الخلائق تفقيها، وقضاء، وتربية، دون سواهم ممن لا يتصف بصفة العلم الشرعي.. قال رحمه الله: " إن الله سبحانه شرف أهل العلم، ورفع أقدارهم، وعظم مقدارهم، ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، بل قد اتفق العقلاء على فضيلة العلم وأهله، وأنهم المستحقون شرف المنازل، وهو مما لا ينازع فيه عاقل... وإذا ثبت هـذا، فأهل العلم أشرف الناس، وأعظم منزلة، بلا إشكال، ولا نزاع.. ومن ذلك صار العلماء حكاما على الخلائق أجمعين، قضاء، أوفتيا، أو إرشادا، لأنهم اتصفوا بالعلم الشرعي، الذي هـو حاكم بإطلاق " [10] .

حتى لا يئول ذلك بهم، أو بالناس، إلى ضرب من الوساطة الفكرية ، التي مارسها المقلدة من العلماء في عصره، نبه إلى كون حكمهم على الناس تفقيها، وتربية، ليس لخواص ذاتية فيهم، وأسرار غير متعدية إلى من سواهم، أو غير جائزة في غير حقهم، وإنما للعلم الشرعي الذي يحملون.. ولذلك استدرك في نفس السياق، وهو الشديد الحساسية تجاه الوساطة، قائلا: " فلزم من ذلك، أنهم لا يكونون حكاما على الخلق، إلا من ذلك الوجه " [11] .. ثم قال بعد ذلك: " فعلى كل تقدير، لا يتبع أحد من العلماء، إلا من حيث هـو متوجه نحو الشريعة، قائم بحجتها، حاكم بأحكامها، جملة وتفصيلا " [12] . [ ص: 131 ]

ولم يكن الشاطبي لذلك، يجرد العلم الشرعي من بعده التربوي، بل قدم العلم الشرعي، على أنه الباعث على العمل والتدين، تماما كما كان في عهد القرون الثلاثة الخيرة، فلا فرق - بناء على ذلك - بين مفهوم العالم، ومفهوم المربي ، إذ لا علم شرعي، إلا وهو مفيد للتربية، ولا قيمة لعلم لا يفيد العمل في مجال الدين، وفي ذلك يقول: " العلم، الذي هـو العلم المعتبر شرعا، أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق، هـو العلم الباعث على العمل، الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هـواه، كيفما كان، بل هـو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه، طوعا وكرها " [13] .

فالعلم الشرعي عند الشاطبي، هـو بطبعه حامل على العمل، والتعبد، والصلاح، لكن على أساس أن يتعمق العالم في العلم، حتى يصير إلى درجة المربي، إذ: " المثابرة على طلب العلم والتفقه، وعدم الاجتزاء باليسير منه يجر إلى العمل به، ويلجئ إليه " [14] ، لأن أنصاف العلماء، هـم الذين يضرون بالدين والمتدينين، فبدل أن يرتقوا إلى مصاف المربين الحكماء، يسقطون في هـوة الوساطة مع الوسطاء، فيغترون بما لديهم من علم يسير، ويبنون عليه انحرافهم، وزللهم، ويحسبون أنهم قد بلغوا مراتب الكمال، بيد أن العالم الحق، هـو الذي يتفرغ للعلم، [ ص: 132 ] فيعطيه عمره كله، حتى يرسخ في صلبه، ويكون قد تخلص من أشكال التقليد الظاهرة، والخفية، وتحقق في شخصه استقلال التوحيد.. قال أبو إسحاق :

" ويسمى صاحب هـذه المرتبة: الرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، والعالم، والفقيه، والعاقل؛ لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره، ويوفي كل أحد حقه، حسبما يليق به، وقد تحقق بالعلم، وصار له كالوصف المجبول عليه، وفهم عن الله مراده " [15] .

فأنت ترى أنه جعل العالم الراسخ في العلم، مربيا حكيما، بسبب وصف العلم الشرعي، الذي تحقق له، ولم يفرق بين العالم والمربي، بل جعلهما لمسمى واحد، وذلك سعيا لقطع الطريق أمام الجهال، ممن يدعي المشيخة بغير علم، ولا سلطان مبين، وإنما بالرياضات، التي لا تنضبط في كثير من صورها لضابط الشرع، فيمارسون وصايتهم، ووساطتهم على العامة من المتدينين!

فبعد تحديد مصدر التربية في النصوص الشرعية، وتحديد صفة المربي، وإناطتها بالعلماء، إذ هـم المشرفون على تربية الناس باستحقاق، والموجهون لتدينهم على جدارة، عمل على إحصاء وتتبع رموز الوساطة التربوية ، في المجتمع الإسلامي، لنقض صروحها، ومحو أشكالها، ورسومها، في العقيدة، والفقه، والتصوف ، سواء بسواء.. ومن ذلك قوله رحمه الله في أمثلتها ونماذجها: [ ص: 133 ]

" أحدها، وهو أشدها: قول من جعل اتباع الآباء في أصل الدين، هـو المرجوع إليه، دون غيره، حتى ردوا بذلك براهين الرسالة، وحجة القرآن، ودليل العقل...

والثاني: رأي الإمامية في اتباع الإمام المعصوم - في زعمهم - وإن خالف ما جاء به النبي المعصوم حقا، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ...

والثالث: لاحق بالثاني، وهو مذهب الفرقة المهدوية ، التي جعلت أفعال مهديهم حجة، وافقت حكم الشريعة، أو خالفت...

والرابع: رأي المقلدة لمذهب إمام، يزعمون أن إمامهم هـو الشريعة، بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم، حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد، وتكلم في المسائل، ولم يرتبط إلى إمامهم، رموه بالنكير...

والخامس: رأي نابتة متأخرة الزمان، ممن يدعي التخلق بخلق أهل التصوف ، المتقدمين، أو يروم الدخول فيهم، يعمدون إلى ما نقل عنهم في الكتب، من الأحوال الجارية عليهم، أو الأقوال الصادرة عنهم، فيتخذونها دينا وشريعة، لأهل الطريقة، وإن كانت مخالفة للنصوص الشرعية، من الكتاب والسنة، أو مخالفة لما جاء عن السلف الصالح، لا يلتفتون معها إلى فتيا مفت، ولا نظر عالم، بل يقولون: إن صاحب هـذا الكلام ثبتت ولايته، فكل ما يفعله، أو يقوله حق... وهو عين اتباع الرجال، وترك الحق " [16] . [ ص: 134 ]

ولقد كان الشاطبي ، كما ترى من خلال هـذا النص وغيره، محاربا لشتى أشكال الوساطات ، العقدية، والفقهية، والطرقية، بل إن النصوص في هـذا المعنى عنده متعددة، تكاد تشغل كل مضمون كتاب الاعتصام، لكن الملاحظ أن اهتمامه بمحاربة الوساطة الطرقية ، والمشيخة الصوفية ، كان أشد وأبلغ، ولم يفتأ يردد في كل مناسبة ضرورة إخضاع التربية الروحية لمنهج التوحيد، وتنبيه المتربي إلى عدم جواز الاقتداء إلا بما عليه دليل من الشرع، مهما كان الشخص المقتدى به.. وهذا المعنى تكرر كثيرا، كما ذكرت، لديه رحمه الله، ونكتفي في ختام هـذه الجولة مع أبي إسحاق، أن نورد كلمته الموجهة إلى المتصوفة في هـذا الشأن، حيث قال رحمه الله:

" لا بد في الاقتداء بالصوفي، من عرض أقواله وأفعاله، على حاكم يحكم عليها، هـل هـي من جملة ما يتخذ دينا أم لا؟ والحاكم هـو الشرع. وأقوال العالم تعرض على الشرع أيضا " [17] .

بيد أن خطاب أبي إسحاق، لم يلق منهم أذنا صاغيا، بل إعراضا وإنكارا، فقد كان متصوفة عصره، قد دخلوا في ظلمات الطرقية، واعتقدوا بمقولات الأقطاب والأبدال ، كما بينا، فصارت الوساطة الروحية تجري في دمائهم، كالمخدر الذي يصعب التخلص منه، ولذلك علق رحمه الله بعد كلامه السابق، قائلا: [ ص: 135 ] " ولكن هـؤلاء الرجال النابتة، لا يفعلون ذلك، فصاروا متبعين الرجال من حيث هـم رجال " [18] ، وذلك بقولهم لمن يرشدهم -كما نقله الشاطبي عنهم- : " كان الشيخ فلان من الأولياء، وكان يفعله وهو أولى أن يقتدى به، من علماء الظاهر " [19] .

لقد كان العصر عصر انحدار نحو الانحطاط، فالأندلس التي عاش بها الشاطبي، تساقط قلعة قلعة، وموت الهمم في ازدياد متواتر؛ بسبب سيطرة التواكلية الخرافية، والهيمنة الوساطية للجهال على الجماهير، التي أسلمت لها زمامها، قانعة بما يراه فقهاء التقليد المحض، ومشايخ الزوايا القابعين بأعشاش الأمية، والخيالات الوهمية، خارج المدار الصحيح للتاريخ! وكذا تواطؤ أمراء الأقاليم، وسلاطين الحصون والطوائف، مع جهلة التقليد الفقهي والصوفي على السواء.. كل ذلك وغيره، جعل صيحة الإمام الشاطبي وغيره من المجددين في هـذه المرحلة، تلقى المصير الذي لقيه ابن تيمية ، رحمهم الله أجمعين، ولا يتعامل مع كتبهم ومصنفاتهم إلا قليلا، ولن تلقى القبول من الأمة إلا بعد ارتفاع بعض الغشاوة عن بصرها في بداية العصر الحديث؛ حيث ستشكل صحوة القرن الثامن مادة حيوية لتعميق وعي النهضة الإسلامية الحديثة والمعاصرة.

ومرت على الأمة بعد القرن الثامن الهجري، قرون لم تزدد خلالها إلا انحطاطا، واندحارا، فلم يظهر خلال القرن التاسع، والعاشر، [ ص: 136 ] والحادي عشر، من دعاة التربية التوحيدية من بلغ شأنه شأن ابن تيمية ، وابن القيم ، والشاطبي ، والسابقين كابن عبد السلام ، وابن الجوزي .. وإن كان ثمة تجديد في المراحل المتأخرة، ففي غير الدعوة إلى التوحيد ذلك أن الوساطة قد أغرقت الناس في أوحالها، فلم يتخلص منها إلا القليل، ولم يشتهر من هـذا القليل من قام بتجديد التربية، فيما نعلم، حيث كان تدين الناس يقوم على المنهج الوساطي بلا منازع.. فالتقليد الفقهي، انحط إلى أسفل دركاته، والتقليد الصوفي صار إلى أحلك ظلمات الخرافة!

ففي القرن الحادي عشر، ظهر مثلا، عبد العزيز الدباغ .. وعن هـذه المرحلة يقول الأستاذ الحجوي رحمه الله، متحدثا عن الطور الأخير من أطوار الفقه: " وهو طور الشيخوخة والهرم المقرب من العدم... لأسباب منها: قصور الهمم عن الاجتهاد إلى الاقتصار على الترجيح في الأقوال المذهبية، والاختيار منها... ثم قصروا عن ذلك في هـذه الأزمان، واقتصروا على النقل عمن تقدم فقط، وانصرفت هـمتهم لشرح كتب المتقدمين وتفهمها، ثم اختصارها.. وفكرة الاختصار، ثم التباري فيه مع جمع الفروع الكثيرة في اللفظ القليل هـو الذي أوجب الهرم... ثم في الأخير قصروا عن الشرح، واقتصروا على التحشية والقشور " [20] .

وإذا كان هـذا حال الفقه، كما كان حال العلوم الشرعية الأخرى، من باب أولى، كعلم أصول الفقه، والنقد الحديثي، وأحكام القرآن، وفقه الحديث، فأنى ترتفع للمنهج التوحيدي راية؟ وما قوامه إلا بالنصوص [ ص: 137 ] الشرعية. وبين هـذه وبين مدارك الناس هـوة شاسعة، تعمرها بثقلها وكثافتها، وساطات التقليد العقدي، والفقهي، والطرقي، مما جعل النصوص الشرعية غائبة عن حياة الناس، تربية، وتدينا، بل لقد مالوا إلى ضرب من تحريم النظر إليها، باعتبار أن العقل المستقل بالنظر، قد انقرض منذ القرون الأولى، وأنه لا يسع أحدا الآن إلا تقليد الأوائل، والأشياخ ، والأقطاب ، مهما أوتي من سعة العلم والعقل! أو كما قال ابن القيم رحمه الله:

" وعند هـؤلاء، أن الأرض قد خلت من قائم لله بحجة، ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم، ولا يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله، ولا سنة رسوله، لأخذ الأحكام منها، ولا يقضي ويفتي بما فيها حتى يعرضه على قول مقلده، ومتبوعه، فإن وافقه حكم به، وإلا رده، ولم يقبله " [21] .

هذا، وابن القيم رحمه الله، إنما يصف عصره، وهو القرن الثامن الهجري، حيث نهضة علماء التوحيد، بالتربية والإصلاح، فما بالك بما بعده من قرون! وما ذلك إلا لسيطرة التفكير الوساطي، وتهيب العلماء من اقتحام عقبة الاجتهاد والتجديد، وعدم جرأتهم على خرق ما تحكم في العقول، من عادة الانتساب إلى الشيخ الفلاني، أو القطب الفلاني، في هـذا المجال، أو ذاك.. فلم ينتهض للإصلاح التربوي الشامل، والتجديد الديني العام أحد في مستوى مجددي القرن الثامن وما قبله، أو يقاربهم، إلا بعد دخول القرن الثاني عشر الهجري، حيث ظهر المصلح التوحيدي الشهير: الإمام محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله. [ ص: 138 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية