الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التوحيد والوساطة في التربية الدعوية [الجزء الثاني]

فريد الأنصاري

خاتمة : إلى كلمة سـواء

وبعد

تلك إذن كانت نظرات في المسألة التربوية الدعوية بدءا بالتربية النبوية، ومرورا على دعاة الإصلاح والمربين المسلمين الأوائل من السلف والخلف.. نظرات سعت إلى الانتخاب النموذجي، لا إلى الاستقصاء والاستقراء التام، لأن غرض هـذا الكتاب إنما هـو التنبيه إلى إشكال معين، بما يكفي للبيان، من تمثيل وتصوير بالنموذج الدال على أمثاله، مما شابهه، وسايره في هـذا الاتجاه أو ذاك.

فكان أن أرجعنا كثيرا من أمراض حركة الوعي الإسلامي الحديث، إلى مشكلة الوساطة في مناهجها التربوية، سواء منها الوساطة الفكرية أو الروحية.. ونحب أن نختم كلامنا هـذا، بالتركيز على قضية من أهم قضايا الحركة، الناتجة عن نفس الإشكال المذكور، ألا وهي التفرقة المذمومة، والتآكل الدوري المفرغ مما أشرت إليه قبل.. بيد أني أنهي الكلام الساعة بنداء لكل الغيورين على دين الله، ومناشدة بالله العزيز الحكيم، لكل حركات الوعي الإسلامي الحديث المجاهدة في هـذا الثغر أو ذاك، وتحت هـذه اللافتة أو تلك، أن تشرع في فصل جديد من تاريخ العمل الدعوي، هـو فصل المراجعة، والحوار الداخلي، قصد توحيد الجهود وتركيزها في اتجاه مجاهدة المد المعادي للإسلام، واتجاه إقامة دين الله، والتمكين له في الأرض، متعبدين بذلك، مخلصين إن شاء الله، إذ الأساس من كل عمل وحدوي هـو توحيد التصورات فيما يتعلق بفهم الدين والتدين، وفهم الواقع وتفسيره، للوصول إلى وحدة لا تلغي الاختلاف الطبيعي الفروعي فيما يتعلق بمجال التنزيل، للعمل الدعوي الإسلامي. [ ص: 162 ]

هذا وإن أول خطوات التوحيد، في تقديري، إنما تبدأ بتوحيد التصور التربوي، إذ كل ما عداه من أمور الدعوة، إنما هـو مبني عليه، ولا توحيد في هـذا الاتجاه، إلا بإنتاج حوار داخلي في صفوف حركة الوعي الإسلامي الحديث، على مختلف أشكالها وأنماطها، ولا حوار أبدا إلا بتوحيد لغة الحوار! فكيف يتحاور عربي وسرياني، كل منهما يجهل لغة صاحبه، وإن صدقت الرغبة في التخاطب، وصحت من كلا الطرفين؟ لا بد إذن من توحيد لغة الحوار ، والبحث أولا عن لغة التخاطب؛ لتعيينها والإقبال عليها بالتعلم والاستعمال إلى درجة الإتقان، ثم يكون الحوار العلمي.

والقصد بلغة الحوار هـنا، هـو منهج التخاطب، والبحث بمنطلقاته المصدرية، وأدواته المرجعية.. وأظن أنه لن يخالفني أحد إذا قررت أن مصدر الاستدلال والاحتجاج، والبيان، والمراجعة، هـو الكتاب، والسنة، كما أنه لن يخالفني الكثير، إذا قررت أن أحسن وسيلة للفهم عن الله ورسوله، وأضمن أداة إجرائية لمناقشة الآراء والأدلة معا هـي العلوم الشرعية المتعلقة بتفسير الخطاب الشرعي.. فمن يضمن لي هـذين الأمرين أضمن له وحدة حركة الوعي الإسلامي، في أي موقع بإذن الله، إذا صدقت النيات، وخلصت لله وحده، ولو على الأقل على صعيد التصورات العامة، ومراحل الدعوة، والحركة على الإجمال.

فكيف بالله عليك، يتفاهم رجلان، بله أن يتفقا، إذا كان أحدهما يقول: " قال الله، قال الرسول " ، والآخر يقول: " قال المفكر الفلاني، أو قلت بدليل العقل المجرد " ، دون استعداد لتسديد هـذا العقل بقصد الشارع، فلا يبقى مجردا، وإنما يصير مؤيدا، لا تشوبه الأهواء والشهوات، والنزوات!؟ وكيف يكون التخاطب بين رجلين، أحدهما يقول: " حدثني فلان عن فلان... مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، والآخر يقول: " حدثني قلبي عن ربي! [ ص: 163 ] أو حدثني قلبي إلهاما، أو مكاشفة " ، ويدع النصوص الشرعية عاطلة تشكو إلى الله الهجران والإهمال!؟

إنني لست نصيا ظاهريا، فلا يتوهمن أحد أن دعوتي للكتاب والسنة، في الحوار، والتربية، والدعوة، والحركة، تعني الانغلاق على ظواهر النصوص، التي لا باطن لها، كما قال ابن تيمية رحمه الله، في نقده للظاهرية، وإنما الفهم عن الله ورسوله، إنما يتم بالأدوات المنهجية الإجرائية، مما أنتجه العلماء في إطار العلوم الشرعية مع فتح للعقل للاستفادة من كل التجارب العقلية، والذوقية، على السواء، بشرط وضعها في موضعها الطبيعي ألا وهو المرجعية الإجرائية، وعدم المنازعة في مصدرية القرآن والسنة، إذا ما حصل الخلاف! حتى إذا تم ذلك، وجب أن نقول: إننا أيها السادة الكرام، في حاجة ماسة إلى صناعة جيل من الرواحل، جيل من الأقوياء الأمناء، لمواجهة التحديات العالمية، التي تحاصر حركة الوعي الإسلامي الحديث، في كل مكان، وتحول بينها وبين مقاصدها العظيمة، وتربك مشروعها، لإعادة تشكيل العقل الإسلامي المعاصر!

وإنها لعمري صناعة، لا تتم إلا بتكوين المسلم القرآني، الذي يستمد صفاته، ومواصفاته، من صفات الأنبياء، ومواصفاتهم، وخصائص الأولياء، وربانيتهم، كما وردت بذلك نصوص القرآن والسنة الصحيحة أساسا. وهو أمر لا يتم إلا بوضع التصورات التربوية، بناء على هـذا القصد، وانطلاقا من هـذا الأساس، وإخراج البرامج العملية لذلك، نصوصا قرآنية وحديثية، وإعادة قراءة السيرة النبوية كنموذج تطبيقي لاكتشاف سنن التربية العملية، والمعالجة التفصيلية للنفوس، والأشخاص، ثم المعالجة الكلية للظروف والمواقف، والمراحل، ولا علينا بعد ذلك إذا اختلفنا في الانتخاب، والاستخراج، إذا انضبط لنا التصور الكلي، والمنهج العام للتربية.. [ ص: 164 ] ثم لا علينا بعد ذلك إن استفدنا من عقل الفقيه، أو مواجد الصوفي، أو تعليلات المفكر والسياسي، ما دام النص هـو الحكم الترضى حكومته بيننا جميعا.

تلك إذن طبيعة التربية التوحيدية الكفيلة بإخراج الطاقات الدعوية الفاعلة، والمخلصة لله، المتوجهة إليه بالتعبد وحده، دون سواه.. الطاقات المنتجة، والمبادرة، التي تفرز مناعتها الذاتية تلقائيا، ضد أي تأثير نفسي إعلامي مضاد.. تتحدى بذلك شبكة الصحون الهوائية حاملة وباء التطبيع النفسي مع أعداء الإسلام، والانحلال الخلقي الرهيب! بل تؤثر هـي في المحيط، وتوجهه، وتجاهده.

إنها الطبيعة القوية بالله، الأمينة لله، المجاهدة في الله، المبادرة إليه، لا الطبيعة الانتظارية الاستهلاكية، المرتبطة بالوسيط الذي يطعمها ويسقيها، تستجيب للشر كما تستجيب للخير سواء!

إن التربية التوحيدية هـي المكلفة، كما تبين، بإخراج جيل قرآني جديد، ذلك النموذج الذي طالما عملت حركة الوعي الإسلامي الحديث على إخراجه، وصناعته! فإلى القرآن والسنة أحبتنا الكرام، نستمد منهما تصوراتنا، ومناهجنا، وبرامجنا في التربية، والتكوين، والإعداد والتوجيه، والترشيد، عسى أن يبارك الله خطواتنا، فتثمر بإذنه عز وجل ما نرجوه من خير لهذه الأمة الممزقة مرتين! مرة بيد المفسدين، وأخرى بيد المصلحين، مع الأسف الشديد! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) [آل عمران:64]. [ ص: 165 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية