الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 505 ] الفصل السادس

                        في تأخير البيان عن وقت الحاجة

                        اعلم أن كل ما يحتاج إلى البيان ، من مجمل ، وعام ، ومجاز ، ومشترك وفعل متردد ، ومطلق ، إذا تأخر بيانه فذلك على وجهين :

                        الأول : أن يتأخر عن وقت الحاجة ، وهو الوقت الذي إذا تأخر البيان عنه لم يتمكن المكلف من المعرفة لما تضمنه الخطاب ، وذلك في الواجبات الفورية لم يجز ; لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع عند جميع القائلين بالمنع من تكليف ما لا يطاق .

                        وأما من جوز التكليف بما لا يطاق ; فهو يقول بجوازه فقط ، لا بوقوعه ، فكان عدم الوقوع متفقا عليه بين الطائفتين ، ولهذا نقل أبو بكر الباقلاني إجماع أرباب الشرائع على امتناعه .

                        قال ابن السمعاني لا خلاف في امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل ، ولا خلاف في جوازه إلى وقت الفعل ; لأن المكلف قد يؤخر النظر ، وقد يخطئ إذا نظر ( فهذان الضربان ) لا خلاف فيهما . انتهى .

                        الوجه الثاني : تأخيره عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل ، وذلك في الواجبات التي ليست بفورية ، حيث يكون الخطاب لا ظاهر له ، كالأسماء المتواطئة ، والمشتركة ، أوله ظاهر ، وقد استعمل في خلافه ، كتأخير التخصيص ، والنسخ ، ونحو ذلك .

                        وفي ذلك مذاهب :

                        ( الأول ) : الجواز مطلقا ، قال ابن برهان : وعليه عامة علمائنا ، من الفقهاء والمتكلمين ، ونقله ابن فورك ، والقاضي أبو الطيب ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وابن السمعاني ، عن ابن سريج والإصطخري ، وابن أبي هريرة ، وابن خيران ، والقفال ، وابن القطان ، والطبري ، والشيخ أبي الحسن الأشعري ، والقاضي أبي بكر [ ص: 506 ] الباقلاني ، ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشافعي ، واختاره الرازي في المحصول ، وابن الحاجب ، وقال الباجي : عليه أكثر أصحابنا ، وحكاه القاضي عن مالك .

                        واستدلوا بقوله سبحانه : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه وثم للتعقيب مع التراخي ، وقوله في قصة نوح : وأهلك وعمومه تناول ابنه ، وبقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ثم لما سأل ابن الزبعرى عن عيسى والملائكة نزل قوله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية وبقوله تعالى : فأن لله خمسه لم يبين بعد ذلك أن السلب للقاتل وبقوله تعالى : أقيموا الصلاة ثم وقع بيانها بعد ذلك بصلاة جبريل وبصلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبقوله تعالى : وآتوا الزكاة وبقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا وبقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت ثم وقع البيان لهذه الأمور بعد ذلك بالسنة ، ونحو هذا كثير جدا .

                        ( المذهب الثاني ) : المنع مطلقا ، ونقله القاضي أبو بكر الباقلاني ، والشيخ أبو إسحاق [ ص: 507 ] الشيرازي ، وسليم الرازي ، وابن السمعاني ، عن أبي إسحاق المروزي ، وأبي بكر الصيرفي ، وأبي حامد المروزي ، ونقله الأستاذ أبو إسحاق ، عن أبي بكر الدقاق .

                        قال القاضي : وهو قول المعتزلة وكثير من الحنفية ، وابن داود الظاهري ونقله ابن القشيري عن داود الظاهري ، ونقله المازري والباجي عن الأبهري .

                        قال القاضي عبد الوهاب : قالت المعتزلة والحنفية لا بد أن يكون الخطاب متصلا بالبيان ، أو في حكم المتصل ، احترازا من انقطاعه بعطاس ونحوه من عطف الكلام بعضه على بعض .

                        قال : ووافقهم بعض المالكية والشافعية .

                        واستدل هؤلاء بما لا يسمن ولا يغني من جوع ، فقالوا : لو جاز ذلك فإما أن يكون إلى مدة معينة ، أو إلى الأبد ، وكلاهما باطل ، أما إلى مدة معينة ; فلكونه تحكما ، ولكونه لم يقل به أحد ، وأما إلى الأبد ; فلكونه يلزم المحذور ، وهو الخطاب والتكليف به مع عدم الفهم .

                        وأجيب عنهم : باختيار جوازه إلى مدة معينة عند الله ، وهو الوقت الذي يعلم أنه يكلف به فيه ، فلا تحكم .

                        هذا أنهض ما استدلوا به على ضعفه ، وقد استدلوا بما هو دونه في الضعف ، فلا حاجة لنا إلى تطويل البحث بما لا طائل تحته .

                        ( المذهب الثالث ) : أنه يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره حكاه القاضي أبو الطيب والقاضي عبد الوهاب ، وابن الصباغ عن الصيرفي وأبي حامد المروزي . قال أبو الحسين بن القطان لا خلاف بين أصحابنا في جواز تأخير بيان المجمل ; كقوله تعالى : أقيموا الصلاة وكذا لا يختلفون أن البيان في الخطاب العام يقع بفعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والفعل يتأخر عن القول ; لأن بيانه بالقول أسرع منه بالفعل .

                        وأما العموم الذي يعقل مراده من ظاهره كقوله : والسارق والسارقة فاقطعوا فقد اختلفوا فيه ; فمنهم من لم يجوز تأخير بيانه ، كما هو مذهب [ ص: 508 ] أبي بكر الصيرفي ، وكذا حكى اتفاق أصحاب الشافعي على جواز تأخير بيان المجمل ابن فورك ، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، ولم يأتوا بما يدل على عدم جواز التأخير فيما عدا ذلك إلا ما لا يعتد به ولا يلتفت إليه .

                        ( المذهب الرابع ) : أنه يجوز تأخير بيان العموم ; لأنه قبل البيان مفهوم ، ولا يجوز تأخير بيان المجمل ; لأنه قبل البيان غير مفهوم ، حكاه الماوردي والروياني وجها لأصحاب الشافعي ، ونقله ابن برهان في الوجيز عن عبد الجبار ولا وجه له .

                        ( المذهب الخامس ) : أنه يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهي ، ولا يجوز تأخير بيان الأخبار ، كالوعد والوعيد ، حكاه الماوردي عن الكرخي وبعض المعتزلة ، ولا وجه له أيضا .

                        ( المذهب السادس ) : عكسه ، حكاه الشيخ أبو إسحاق مذهبا ، ولم ينسبه إلى أحد ، ولا وجه له أيضا ، ونازع بعضهم في حكاية هذا وما قبله مذهبا ، قال : لأن موضوع المسألة الخطاب التكليفي ، فلا تذكر فيها الأخبار .

                        قال الزركشي وفيه نظر .

                        ( المذهب السابع ) : أنه يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره ، ذكر هذا المذهب أبو الحسين في المعتمد ، وأبو علي ، وأبو هاشم ، وعبد الجبار ، ولا وجه له أيضا ; لعدم الدليل الدال على عدم جواز التأخير فيما عدا النسخ ، وقد عرفت قيام الأدلة المتكثرة على الجواز مطلقا ، فالاقتصار على بعض ما دلت عليه دون بعض بلا مخصص باطل .

                        ( المذهب الثامن ) : التفصيل بين ما ليس له ظاهر كالمشترك ، دون ما له ظاهر كالعام ، والمطلق ، والمنسوخ ، ونحو ذلك ، فإنه لا يجوز التأخير في الأول ، ويجوز في الثاني ، نقله فخر الدين الرازي ، عن أبي الحسين البصري ، والدقاق ، والقفال ، وأبي إسحاق ، وقد سبق النقل عن هؤلاء بأنهم يذهبون إلى خلاف ما حكاه عنهم ، ولا وجه لهذا التفصيل .

                        ( المذهب التاسع ) : أن بيان المجمل إن لم يكن تبديلا ولا تغييرا ، جاز مقارنا وطارئا وإن كان تغييرا جاز مقارنا ، ولا يجوز طارئا بحال . نقله ابن السمعاني عن [ ص: 509 ] أبي زيد من الحنفية ، ولا وجه له أيضا .

                        فهذه جملة المذاهب المروية في هذه المسألة ، وأنت إذا تتبعت موارد هذه الشريعة المطهرة ، وجدتها قاضية بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب قضاء ظاهرا واضحا ، لا ينكره من له أدنى خبرة بها ، وممارسة لها ، وليس على هذه المذاهب المخالفة لما قاله المجوزون أثارة من علم .

                        وقد اختلف القائلون بجواز التأخير في جواز تأخير البيان على التدريج ، بأن يبين بيانا أولا ، ثم يبين بيانا ثانيا ، كالتخصيص بعد التخصيص ، والحق الجواز ; لعدم المانع من ذلك لا من شرع ، ولا عقل فالكل بيان .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية