الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال ( والأفضل في صلاة الظهر أن يؤخرها ويبرد بها في الصيف وفي الشتاء يعجلها بعد الزوال ) وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه إن كان يصلي وحده يعجلها بعد الزوال في كل وقت وإن كان يصلي بالجماعة يؤخر يسيرا

واستدل بحديث خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه قال { شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في خيامنا فلم يشكنا } أي لم يجبنا إلى شكوانا فدل أنه كان يعجل الظهر وأصحابنا استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم { أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم } وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه { كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فلما زالت الشمس جاء بلال ليؤذن فقال له أبرد هكذا مرارا فلما صار للتلال فيء قال أذن } .

ولأن في التعجيل في الصيف تقليل الجماعات وإضرارا بالناس فإن الحر يؤذيهم وتأويل حديث خباب أنهم طلبوا ترك الجماعة أصلا . على أن معنى قوله فلم يشكنا أي لم يدعنا في الشكاية بل أزال شكوانا بأن أبرد بها ، فأما في الشتاء فالمستحب تعجيلها لحديث أنس رضي الله تعالى عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم { يصلي الظهر في الشتاء فلا يدري أن ما مضى من النهار [ ص: 147 ] أكثر أم ما بقي } { وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين وجهه إلى اليمن إذا كان الصيف فأبرد فإن تقيلوك فأمهلهم حتى يدركوا وإذا كان الشتاء فصل الظهر حين تزول الشمس فإن الليالي طوال } فأما العصر فالمستحب تأخيرها في الصيف والشتاء عندنا بعد أن يؤديها والشمس بيضاء نقية لم يدخلها تغير .

وقال الشافعي رحمه الله تعالى المستحب تعجيلها لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس طالعة في حجرتي } ولحديث أنس رضي الله تعالى عنه { كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر فيذهب الذاهب إلى العوالي وينحر الجزور ويطبخ ويأكل قبل غروب الشمس } .

( ولنا ) حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال { كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس بيضاء نقية } وهذا منه بيان تأخير للعصر ، { وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنتم أشد تأخيرا للظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تأخيرا للعصر منكم } وقيل سميت العصر ; لأنها تعصر أي تؤخر ولأن في تأخير العصر تكثير النوافل وأداء النافلة بعدها مكروه ولهذا كان التعجيل في المغرب أفضل لأن أداء النافلة قبلها مكروه ولأن المكث بعد العصر إلى غروب الشمس في موضع الصلاة مندوب إليه قال عليه الصلاة والسلام { من صلى العصر ومكث في المسجد إلى غروب الشمس فكأنما أعتق ثمانية من ولد إسماعيل } عليه السلام وإذا أخر العصر يتمكن من إحراز هذه الفضيلة فهو أفضل ، فأما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فقد كانت حيطان حجرتها قصيرة فتبقى الشمس طالعة فيها إلى أن تتغير .

وحديث أنس فقد كان ذلك في وقت مخصوص لعذر فأما صلاة المغرب فالمستحب تعجيلها في كل وقت وقد بينا أن تأخيرها مكروه وكان عيسى بن أبان رحمه الله تعالى يقول الأولى تعجيلها للآثار ولكن لا يكره التأخير مطلقا ، ألا ترى أن بعذر السفر والمرض تؤخر المغرب ليجمع بينها وبين العشاء فعلا ، فلو كان المذهب كراهة التأخير لما أبيح ذلك بعذر السفر والمرض كما لا يباح تأخير العصر إلى أن تتغير الشمس

واستدل فيه بما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب ليلة } وإنما يحمل ذلك على بيان امتداد الوقت وإباحة التأخير . فأما صلاة العشاء فالمستحب عندنا تأخيرها إلى ثلث الليل ويجوز التأخير بعد ذلك إلى نصف الليل ويكره التأخير بعد ذلك ، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه المستحب تعجيلها بعد غيبوبة الشفق لحديث نعمان بن بشير [ ص: 148 ] قال { كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء حين يسقط القمر الليلة الثالثة } وذلك عند غيبوبة الشفق يكون ، ولأن في تعجيلها تكثير الجماعة خصوصا في زمان الصيف .

( ولنا ) ما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر العشاء إلى ثلث الليل ثم خرج فوجد أصحابه في المسجد ينتظرونه فقال أما أنه لا ينتظر هذه الصلاة في هذا الوقت أحد غيركم ولولا سقم السقيم وضعف الضعيف لأخرت العشاء إلى هذا الوقت } وفي حديث آخر { لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل } ( وكتب ) عمر رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن صل العشاء حين يذهب ثلث الليل فإن أبيت فإلى نصف الليل فإن نمت فلا نامت عيناك وفي رواية فلا تكن من الغافلين .

والحاصل أن الشافعي رضي الله تعالى عنه يختار أداء الصلاة في أول الوقت لقوله عليه الصلاة والسلام { أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله } والعفو يكون بعد التقصير ، ولأن فيه إحراز الفضيلة قبل أن يعترض عليه عذر يعجزه عن إحرازها وأصحابنا اختاروا التأخير ففيه انتظار للصلاة وقال صلى الله عليه وسلم { المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها } وفي التأخير تكثير الجماعة أيضا وفيه تقليل النوم فهو أفضل ، وما كان امتداد الوقت إلا للتيسير ، وفي التأخير إظهار معنى التيسير وهو الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله { وآخره عفو الله } فالمراد بالعفو الفضل قال تعالى { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } ولا يجوز أن يحمل العفو هاهنا على التجاوز عن التقصير فقد ذكر في إمامة جبريل عليه السلام تأخير الأداء للصلاة في اليوم الثاني إلى آخر الوقت وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد إلى شيء يكون فيه تقصير فإن الزلة التي تجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ما تكون من غير تقصير

التالي السابق


الخدمات العلمية