الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : واحتج في الجمع بين الصلاتين في السفر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في سفره إلى تبوك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء جميعا وأن ابن عمر جمع بين المغرب ، والعشاء في وقت العشاء ، وأن ابن عباس قال : ألا أخبركم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ؟ كان إذا زالت الشمس وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر في وقت الزوال ، وإذا سافر قبل الزوال أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر . ( قال الشافعي ) : وأحسبه في المغرب ، والعشاء مثل ذلك ، وهكذا فعل بعرفة أنه أرفق به تقديم العصر ليتصل له الدعاء ، وأرفق به بالمزدلفة تأخير المغرب ليتصل له السفر ، فلا ينقطع بالنزول للمغرب لما في ذلك من التضييق على الناس ، فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن من له القصر فله الجمع كما وصفت ، والجمع بين الصلاتين في أي الوقتين شاء " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال : إذا سافر الرجل سفرا تقصر في مثله الصلاة جاز الجمع بين الظهر ، والعصر في وقت أيهما شاء ، وبين المغرب ، والعشاء في أي وقت شاء ، وهو قول أكثر الفقهاء .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا يجمع إلا بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفات ، وبين المغرب والعشاء الآخرة في وقت عشاء الآخرة بمزدلفة مسافرا كان أو مقيما حاضرا ، ولا يجوز الجمع في غير ذلك ، استدلالا بقوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [ النساء : 103 ] . فأوجب فعلها في أوقاتها ومنع من تأخيرها ، وتقديمها ، والجمع تأخير ، أو تقديم ، فوجب أن يكون ممنوعا منه ، ورواية قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تفريط في النوم إنما التفريط أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى فأخبر أن تأخير الصلاة إلى غير وقتها تفريط .

                                                                                                                                            قال : ولأنهما صلاتان لا يجوز للمقيم الجمع بينهما مع زوال العذر ، فيجب أن لا [ ص: 393 ] يجوز للمسافر الجمع بينهما بالسفر كالعصر مع المغرب ، ولأنها صلاة مفروضة فوجب أن لا يجوز للمسافر أن يجمع بينها وبين غدها كالصبح . قال : وقد روي عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه قال : الجمع بين الصلاتين من الكبائر . قال : وعمر لا يقبل ذلك فيما يحتمل التأويل أو يسوغ في الاجتهاد مع مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره ، ومعرفته بأحوال صلاته رأيا واجتهادا ، وإنما قال ذلك إما توقيفا ، أو إجماعا ، وهذا الذي قالوه خطأ . والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه رواية ابن عباس قال : ألا أخبركم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر : كان إذا زالت الشمس وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر في الزوال ، أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر .

                                                                                                                                            وروى الليث بن سعد ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن عمرو بن دينار قال : غربت الشمس ، ونحن مع عبد الله بن عمر ، فسار ، فلما أمسى قلنا الصلاة ، فسار حتى غاب الشفق ، وتصوبت النجوم ، ثم نزل وجمع بين المغرب ، والعشاء ، وقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير يصلي صلاتي هذه ويقول : يجمع بينهما بعد ليل أي بعد مضي هوي من الليل . ولأنه سفر يجوز فيه القصر ، فجاز فيه الجمع كالحج ، ولأن كل رخصة جازت في سفر الحج جازت في السفر المباح كـ " القصر " لأن فعل الصلاة أوكد من وقتها ، ولأنه لما كان للسفر تأثير في ترك بعض الصلاة فلأن يكون له تأثير في ترك الوقت أولى ، ولأن العبادة قد تتحتم في الحضر في وقت لا يجوز تأخيرها عنه ، ثم يجوز له تأخيرها في السفر ، يبين ذلك ترك الوقت في صوم رمضان ، وهو الفطر كذلك الصلاة ، وإن تحتم وقتها في الحضر فلا يمتنع أن يجوز تأخيرها عن ذلك الوقت في السفر .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بقوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [ النساء : 103 ] ، فلا حجة فيه لأن وقت الجمع يكون وقتا لهما ، ألا تراه يكون مؤديا لا قاضيا .

                                                                                                                                            وأما حديث أبي قتادة ، فخبرنا خاص إذ الوصف غير مسلم ، لأن المقيم قد يجمع .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الصبح ، والعصر فغير صحيح من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الوصف غير مسلم لأن المقيم قد يجمع بينهما .

                                                                                                                                            [ ص: 394 ] والثاني : أن خلافنا في السفر هل له تأثير في الجمع أم لا ؟ وكيفية الجمع فرع له ولا يجوز أن يرد الأصل إلى فرعه ، على أن الرخصة المتعلقة بالصلاة لأجل السفر رخصتان : القصر ، والجمع ، فلما اختص بالقصر بعض الصلاة دون بعض كذلك الرخصة الأولى ، وهي الجمع ، ثم نقول : إن المعنى في العصر ، والمغرب أن كل واحدة منهما يجوز جمعها إلى غيرها ، فلم يجز الجمع بينهما ، وكذلك الصبح لم يجز أن تجمع إلى غيرها : لأن التي قبلها العشاء ، وهي تجمع إلى المغرب ، والتي بعدها الظهر وهي تجمع إلى العصر ، فأما ما رواه عن عمر ، رضي الله عنه ، أنه قال : الجمع بينهما من الكبائر . فهذا غير ثابت ، وإنما الثابت عنه أنه قال : الجمع بينهما لغير عذر من الكبائر . والسفر عذر ، فكيف يصح ما رووه عن عمر ، رضي الله عنه ، وحديث الجمع مستفيض في الصحابة برواية كثير منهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدفعونه ولا ينكرونه حتى رواه معاذ بن جبل ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وأنس بن مالك ؟ فدل على أن الثابت عن عمر ، رضي الله عنه ، ما رويناه .

                                                                                                                                            فإذا تقرر جواز الجمع في سفر القصر ففي جوازه في قصير السفر وجهان :

                                                                                                                                            أصحهما : وهو المنصوص عليه في الجديد والقديم لا يجمع ، لأنه سفر لا يجوز فيه القصر ، فلم يجز فيه الجمع كسفر المعصية .

                                                                                                                                            والثاني : وهو تخريج بعض أصحابنا في القديم ، يجوز له الجمع في قصير السفر كجوازه في طويله ، وكثير من أصحابنا يمنع من تخريج هذا القول . فإن صح فوجهه أن يقال : لما جاز الجمع في الحضر بالعذر كجوازه بالسفر اقتضى أن لا يقع الفرق فيه بين طويل السفر وقصيره كالتيمم ، وأكل الميتة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية