لم أعلم في هذه المسألة نصا من كتاب ، ولا سنة ، والعلماء مختلفون فيه ، قال القرطبي : قد اختلف في ذلك ونحن نقول : إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام ، فهو راض به وليس له نفيه ، وبهذا قال ، وقال أيضا : متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة من تمكنه من الحاكم ، فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك ، وقال الشافعي أبو حنيفة : لا أعتبر مدة ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : يعتبر فيه أربعون يوما مدة النفاس ، قال [ ص: 474 ] ابن القصار : والدليل لقولنا هو أن نفي ولده محرم عليه واستلحاق ولد ليس منه محرم عليه ، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه ، ويفكر هل يجوز له نفيه أو لا ؟ وإنما جعلنا الحد ثلاثة ; لأنه أول حد الكثرة ، وآخر حد القلة ، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر فيها حال المصراة ، وكذلك ينبغي أن يكون هنا .
وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهما بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع ، إذ لا شاهد لهما في الشريعة ، وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة ، انتهى كلام القرطبي ، ولا يخفى ضعف ما استدل به ابن القصار من علماء المالكية للتحديد بثلاثة .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسألة مبنية على الاختلاف في قاعدة أصولية ، وهي : هل ينزل السكوت منزلة الإقرار أو لا ؟ وقد أشار إلى ذلك صاحب " مراقي السعود " ، بقوله :
وجعل من سكت مثل من أقر فيه خلاف بينهم قد اشتهر فالاحتجاج بالسكوتي نمى
تفريعه عليه من تقدما وهو بفقد السخط والضد حري
مع مضي مهلة للنظر
فمن قال : إن السكوت لا يعد رضى ، قال : لأن الساكت قد يسكت عن الإنكار مع أنه غير راض ، ومن قال : إنه يعد رضى ، قال : لأن سكوته قرينة دالة على رضاه واستأنسوا ، وبعضهم يقول : تخصيص البكر بذلك ، يدل على أن غيرها ليس كذلك ، والخلاف في هذه المسألة معروف في فروع الأئمة وأصولهم ، ومن تتبع فروعهم وجدهم في بعض الصور يجعلون السكوت كالرضى ، كالسكوت عن اللعان زمنا بعد العلم بموجبه ، وكالسكوت عن القيام بالشفعة ونحو ذلك ، ويكثر في فروع مذهب بقوله - صلى الله عليه وسلم - في البكر " : إذنها صماتها " مالك جعل السكوت كالرضى .
ومن أمثلة ذلك ما قاله ابن عاصم في رجزه في أحكام القضاء في مذهب مالك :
وحاضر لواهب من ماله ولم يغير ما رأى من حاله
الحكم منعه القيام بانقضا مجلسه إذ صمته عين الرضى
ولكل واحد من القولين وجه من النظر .
والذي يظهر لنا في مسألة السكوت عن اللعان أنه إن سكت زمنا يغلب على الظن فيه [ ص: 475 ] عادة أنه لا يسكت فيه إلا راض عد رضى ، وإلا فلا ; لأن العرف محكم ، والعلم عند الله تعالى .