( الفرق السادس والتسعون والمائة بين قاعدة خيار المجلس وقاعدة خيار الشرط )
المجلس عند من قال به هو من خواص عقد البيع وما في معناه من غير شرط ، بل هو من اللزوم عارض عند اشتراطه وينتفي عند انتفاء الاشتراط واعلم أن الأصل في العقود اللزوم ؛ لأن العقود أسباب لتحصيل المقاصد من الأعيان ، والأصل ترتيب المسببات على أسبابها وخيار الشرط عندنا باطل والبيع لازم بمجرد العقد تفرقا أم لا ، وقاله وخيار المجلس . أبو حنيفة
وقال الشافعي رضي الله عنهما بعدم لزوم العقد وخيار المجلس حتى يتفرقا أو يختار الإمضاء وحكاه وابن حنبل أبو الطاهر عن منا ، وكذلك الإجارة والصرف والسلم والصلح على غير جنس الحق وهو حطيطة لا بيع ، وكذلك القسمة بناء على أنها بيع واعتمد ابن حبيب مالك على الأصل المتقدم أن الأصل في العقود اللزوم لذوي [ ص: 270 ] الحاجات من الأعواض فإن العقد لا يقع إلا لحاجة ولا تندفع الحاجة إلا بالتخيير واحتج وأبو حنيفة ، ومن وافقه بما في الشافعي وغيره قال صلى الله عليه وسلم { البخاري } ولنا عنه عشرة أجوبة المتعاقدان بالخيار ما لم يتفرقا إلا ببيع الخيار أو يقول أحدهما للآخر اختر
( الأول ) حمل المتبايعين على المتشاغلين بالبيع مجازا يدل عليه ما سيأتي من الأدلة ويكون الافتراق بالأقوال
( الثاني ) أن أحد المجازين لازم في الحديث لنا إن حملنا المتبايعين على حالة المبايعة كان حقيقة ؛ لأن اسم الفاعل لا يصدق حقيقة الإحاطة الملابسة وبكون المجاز في الافتراق فإن أصله في الأجسام نحو افتراق الخشبة وفرق البحر ويستعمل مجازا في الأقوال نحو قوله تعالى { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } ، وقوله صلى الله عليه وسلم { بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي } ، الحديث . أي بالأقوال والاعتقادات وإن حملنا المتبايعين على من تقدم منه البيع كان مجازا كتسمية الإنسان نطفة ، ثم يكون الافتراق في الأجسام [ ص: 271 ] حقيقة ، ثم في هذا المقام يمكننا الاقتصار على هذا الفرق ونقول ليس أحدهما أولى من الآخر ، فيكون الحديث مجملا فيسقط به الاستدلال ولنا ترجيح المجاز الأول لكونه معضودا بالقياس والقواعد . : افترقت
( الثالث ) قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الطرق في أبي داود { والدارقطني } فلو كان [ ص: 272 ] خيار المجلس مشروعا لم يحتج للإقالة فإن من توجهت نفسه يختار الفسخ ولما صرح بما يقتضي احتياجه للآخر وهو الإقالة دل على بطلان خيار المجلس بعد العقد وإنما هو ثابت قبل العقد وإن المتبايعين هما المتشاغلان بالبيع كما تقدم في الوجه الأول ، وهذا دليل ذلك المجاز . الرابع المعارضة بنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر ، وهذا من الغرر ؛ ولأن كل واحد منهما لا يدري ما يحصل له من الثمن والمثمن المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا إلا أن يكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله
( الخامس ) قوله تعالى { أوفوا بالعقود } والأمر للوجوب المنافي للخيار
( السادس ) لو صح خيار المجلس لتعذر تولي واحد طرفي العقد كشراء الأب لابنه الصغير والوصي والحاكم ؛ لأن ذلك مجمع عليه فيلزم ترك العمل بالدليل وعلى قولنا لا يلزم كذلك يلزم فيما يسرع إليه الفساد من الأطعمة كالهرائس والكنائف
( السابع ) أن نقول خيار المجلس مجهول العاقبة فيبطل كخيار الشرط المجهول العاقبة أو النهاية في الزمان فإن خيار المجلس ليس له ضابط إلا الافتراق ، وقد يطول ، وقد يقصر ومثل ذلك مجمع على بطلانه في خيار الشرط الذي صرح به فأولى أن يقتضي بطلان ما لم يصرح به في العقد
( الثامن ) عقد وقع الرضى به فيبطل خيار المجلس فيه كما بعد الإمضاء
( التاسع ) يحمل الحديث على ماذا قال المشتري بعني [ ص: 273 ] فيقول البائع بعتك فإن قال له الخيار ما دام في المجلس وهذه صورة تفرد بها الحنفية فلا بد أن يقول عندهم اشتريت وإن كان قد استدعى البيع وحملوا عليه قوله عليه الصلاة والسلام في أبا يوسف في آخر الحديث { البخاري } أي اختر الرجوع عن الإيجاب أو الاستدعاء ونحن نحمله على اختيار شرط الخيار ، فيكون معنى الحديث المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا فلا خيار أو يقول أحدهما لصاحبه اختر فلا تنفع الفرقة ولذلك لم يرد إلا بيع الخيار مع هذه الزيادة أو يقول أحدهما للآخر اختر
( العاشر ) عمل أهل المدينة وهو مقدم على خبر الواحد فإن تكرر البيع عندهم مع الأنفاس ، فعدم المجلس بين أظهرهم يدل على عدم مشروعية دلالة قاطعة والقطع مقدم على الظن فهذه عشرة أوجه تسقط دلالة الخبر [ ص: 274 ] ثم نذكر وجها حادي عشر يقتضي الدلالة بالخبر على بطلان خيار المجلس عكس ما تدعيه الشافعية وذلك مبني على ثلاث قواعد
: ( القاعدة الأولى ) أن اسم الفاعل حقيقة في الحال مجاز إذا مضى معناه على الأصح
( القاعدة الثانية ) أن ترتيب الحكم على الوصف يقتضي عليه ذلك الوصف لذلك الحكم نحو اقتلوا الكافر وارجموا الزاني واقطعوا السارق ونحوها فإن ترتيب هذه الأحكام على هذه الأوصاف تقتضي عليه تلك الأوصاف المتقدمة لهذه الأحكام
( القاعدة الثالثة ) أن عدم العلة علة المعلول لعدم الإسكار علة لعدم التحريم وعدم الكفر علة لعدم إباحة الدماء والأموال وعدم الإسلام في الردة علة لعدم العصمة هو كثير إذا تقررت هذه القواعد فنقول الحديث يدل على عدم خيار المجلس لا على ثبوته [ ص: 275 ] بيانه وذلك أن المتبايعين حقيقة في حالة الملابسة عملا بالقاعدة الأولى ووصف المبايعة هو علة عدم الخيار عملا بالقاعدة الثانية فإذا انقطعت أصوات الإيجاب والقبول انقطعت المبايعة فتكون العلة قد عدمت فيعدم الخيار المرتب عليها فلا يبقى خيار بعده عملا بالقاعدة الثالثة وهو المطلوب وهذه القواعد كما دلت على عدم خيار المجلس فهي تدل على أن المتبايعين يتعين حملهما على المتساومين فإن الخيار على هذا التقدير لا يثبت إلا في هذه الحالة وينقطع بعدها وهو يؤكد الوجه الأول وهذه نبذة حسنة في هذا من جهة ما اشتمل عليه خيار المجلس من الغرر ومخالفة القواعد والأدلة وغير ذلك الفرق بين قاعدة خيار الشرط وخيار المجلس