[ ص: 16 ] الفرق الثاني والخمسون بين قاعدة خطاب غير المعين وقاعدة الخطاب بغير المعين )
وتحرير الفرق بينهما أن الأول لم يقع في الشريعة والثاني واقع والسبب في ذلك والسر فيه أن خطاب المجهول يؤدي إلى ترك الأمر ويقول كل واحد من المكلفين ما تعين على الامتثال فإنه لم يقع الخطاب معي ولا نص علي فلا أفعل فتبطل مصلحة الأمر
[ ص: 17 ] ولذلك لما كان خطاب فرض الكفاية يقتضي من حيث اللغة خطاب غير المعين كقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وقوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=122فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } ونحو ذلك مما يقتضي مخاطبا غير معين جعل صاحب الشرع الوجوب في فروض الكفايات متعلقا بالكل ابتداء على سبيل الجمع ، فإذا فعل البعض سقط عن الكل وسبب تعلقه بالكل ابتداء لئلا يتعلق الخطاب بغير معين مجهول فيؤدي ذلك إلى تعذر الامتثال ، فإذا وجب على الكل ابتداء انبعثت داعية كل واحد للفعل ليخلص عن العقاب فهذا هو خطاب غير المعين فعرف أنه غير واقع في الشريعة وأما الخطاب بغير المعين فهو واقع في الشريعة كثيرا جدا كالأمر بإخراج شاة غير معينة ودينار من أربعين والسترة بثوب ولم يعين الشرع في هذه المواطن شيئا من أشخاص ذلك المأمور به لتمكن المكلف من إيقاع غير المعين في ضمن معين من ذلك الجنس وقيام الحجة عليه بسبب ذلك فلا تتعذر مصلحة المأمور به بسبب عدم تعين المأمور به بخلاف عدم تعين المأمور الذي هو المكلف فظهر الفرق بين
nindex.php?page=treesubj&link=20511_20505خطاب غير المعين وبين الخطاب بغير [ ص: 18 ] المعين ولنذكر من هذا الفرق مسألتين .
( المسألة الأولى ) قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=2وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } يقتضي أن المأمور ها هنا غير معين وهو خلاف ما تقدم والجواب عنه أن الأمر متوجه على الجميع بالحضور عند حد الزناة حتى يفعل ذلك طائفة من المؤمنين فيسقط الأمر على الباقين وهذا ليس مأخوذا من اللفظ بل من القاعدة الاجتماعية التي تقدمت .
( المسألة الثانية ) قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=12اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } إشارة إلى ظن غير معين بالتحريم والخطاب بغير المعين يجوز من حيث إنه غير معين أن ها هنا سؤالين من جهة أخرى .
السؤال الأول : ما ضابط هذا الظن ؟ فإن صاحب الشرع إذا حرم شيئا ولم يعينه من جنس له حالتان تارة يدل بعد ذلك على نفسه وتارة يحرم الجميع ليجتنب ذلك المحرم فما الواقع ها هنا من هذين القسمين .
السؤال الثاني : الظن يهجم على النفس عند حضور أسبابه والضروري لا ينهى عنه فكيف صح النهي عنه ها هنا ؟
والجواب عن الأول : أن نقول لنا ها هنا طريقان : أحدهما : أن نقول المحرم الجميع حتى يدل الدليل على إباحة البعض فيخرج من العموم كما إذا حرم الله تعالى أخته من الرضاعة واختلطت بأجنبيات فإنهن يحرمن كلهن وكذلك الميتة مع المذكيات إذا اختلطن ، فإذا دل الدليل بعد ذلك على إباحة الظن عند أسبابه الشرعية لابسناه ولم نجتنبه وكان ذلك تخصيصا لهذا العموم وذلك كالظن المأذون فيه عند سماع البينات والمقومين والمفتين والرواة للأحاديث والأقيسة الشرعية وظاهر العمومات فإن هذه المواطن كلها تحصل الظنون المأذون في العمل بها فأي شيء من الظنون دل الدليل عليه اعتبرناه وما لا دليل عليه أبقيناه تحت نهي الآية .
الطريق الثاني في الجواب عن هذا السؤال : أن نقول لا نقول بالعموم في تحريم جميع الظنون بل نقول هذا البعض المشار إليه بالتحريم من الظن بعينه في الأدلة الشرعية مهم دل الدليل على تحريم ظن حرمناه كالظن الناشئ عن قول الفاسق والنساء في الدماء وغيرها من
[ ص: 19 ] المثيرات للظن التي حرم علينا اعتبار الظن الناشئ عنها وما لم يدل فيه دليل على تحريمه قلنا هو مباح عملا بالبراءة فهذا هو الجواب عن السؤال الأول وأما الجواب عن السؤال الثاني فنقول قاعدة وهي أن الخطاب في التكليف لا يتعلق إلا بمقدور مكتسب دون الضروري اللازم الوقوع أو اللازم الامتناع فإذا ورد خطاب وكان متعلقه مقدورا حمل عليه نحو أقيموا الصلاة أو غير مقدور صرف الخطاب لثمرته أو لسببه ومثال ما يحمل على ثمرته قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=2ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } فالرأفة أمر يهجم على القلب قهرا عند حصول أسبابها فيتعين الحمل على الثمرة والآثار وهو تنقيص الحد فيصير معنى الآية لا ننقص الحد قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ويكون من مجاز التعبير بالسبب عن المسبب .
ومثال ما هو غير مقدور ويحمل على سببه قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=133سارعوا إلى مغفرة من ربكم } والمغفرة مضافة إلى الله تعالى ليس مقدورة للعبد فيتعين الحمل على سبب المغفرة فيصير معنى الكلام سارعوا إلى سبب مغفرة من ربكم فيكون ذلك من باب الإضمار أو عبر بالمغفرة عن سببها من مجاز التعبير بالمسبب عن السبب عكس الأول وقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1فطلقوهن لعدتهن } والطلاق الذي هو التحريم غير مقدور للعبد ؛ لأنه كلام الله تعالى وصفته القديمة فيتعين حمله على سببه الذي هو قول الزوج أنت طالق ويكون ذلك من باب التعبير بالسبب عن المسبب ، وقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=102ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } والموت لا ينهى عنه فيتعين حمله على سبب يقتضي حصول الموت في حالة الإسلام وهو تقديم الإسلام قبل ذلك والتصميم عليه فيأتي الموت حينئذ في حالة الإسلام وهو كثير في الكتاب والسنة ولسان العرب فكذلك هاهنا لما تعذر حمل الأمر على الظن نفسه فتعين حمله على آثاره من باب التعبير بالمسبب عن السبب وآثاره التحدث عن الإنسان بما ظن فيه أو أذيته بطريق من الطرق بل يكف عن ذلك حتى يوجد سبب شرعي يبيح ذلك .
[ ص: 16 ] الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَقَاعِدَةِ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ )
وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ وَالثَّانِي وَاقِعٌ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ خِطَابَ الْمَجْهُولِ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْأَمْرِ وَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا تَعَيَّنَ عَلَى الِامْتِثَالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْخِطَابُ مَعِي وَلَا نَصَّ عَلَيَّ فَلَا أَفْعَلُ فَتَبْطُلُ مَصْلَحَةُ الْأَمْرِ
[ ص: 17 ] وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ خِطَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=104وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَقَوْلِهِ {
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=122فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي مُخَاطَبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ ، فَإِذَا فَعَلَ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْكُلِّ وَسَبَبُ تَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ الْخِطَابُ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مَجْهُولٍ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَى تَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْكُلِّ ابْتِدَاءً انْبَعَثَتْ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ لِيَخْلُصَ عَنْ الْعِقَابِ فَهَذَا هُوَ خِطَابُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَعُرِفَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَأَمَّا الْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَهُوَ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرًا جِدًّا كَالْأَمْرِ بِإِخْرَاجِ شَاةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَدِينَارٍ مِنْ أَرْبَعِينَ وَالسُّتْرَةِ بِثَوْبٍ وَلَمْ يُعَيَّنْ الشَّرْعُ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ شَيْئًا مِنْ أَشْخَاصِ ذَلِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ لِتَمَكُّنِ الْمُكَلَّفِ مِنْ إيقَاعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فِي ضِمْنِ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلَا تَتَعَذَّرُ مَصْلَحَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِخِلَافِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَأْمُورِ الَّذِي هُوَ الْمُكَلَّفُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ
nindex.php?page=treesubj&link=20511_20505خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَبَيْنَ الْخِطَابِ بِغَيْرِ [ ص: 18 ] الْمُعَيَّنِ وَلْنَذْكُرْ مِنْ هَذَا الْفَرْقِ مَسْأَلَتَيْنِ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=2وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } يَقْتَضِي أَنَّ الْمَأْمُورَ هَا هُنَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْحُضُورِ عِنْدَ حَدِّ الزُّنَاةِ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْقُطَ الْأَمْرُ عَلَى الْبَاقِينَ وَهَذَا لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ الْقَاعِدَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=12اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } إشَارَةٌ إلَى ظَنٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ بِالتَّحْرِيمِ وَالْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ أَنَّ هَا هُنَا سُؤَالَيْنِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى .
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ : مَا ضَابِطُ هَذَا الظَّنِّ ؟ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا وَلَمْ يُعَيِّنْهُ مِنْ جِنْسٍ لَهُ حَالَتَانِ تَارَةً يَدُلُّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَارَةً يُحَرِّمُ الْجَمِيعُ لِيُجْتَنَبَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمُ فَمَا الْوَاقِعُ هَا هُنَا مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ .
السُّؤَالُ الثَّانِي : الظَّنُّ يَهْجُمُ عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ حُضُورِ أَسْبَابِهِ وَالضَّرُورِيُّ لَا يُنْهَى عَنْهُ فَكَيْفُ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ هَا هُنَا ؟
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ : أَنْ نَقُولَ لَنَا هَا هُنَا طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نَقُولَ الْمُحَرَّمُ الْجَمِيعُ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ الْبَعْضِ فَيَخْرُجَ مِنْ الْعُمُومِ كَمَا إذَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَاخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّاتٍ فَإِنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ كُلُّهُنَّ وَكَذَلِكَ الْمَيْتَةُ مَعَ الْمُذَكَّيَاتِ إذَا اخْتَلَطْنَ ، فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الظَّنِّ عِنْدَ أَسْبَابِهِ الشَّرْعِيَّةِ لَابَسْنَاهُ وَلَمْ نَجْتَنِبْهُ وَكَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِهَذَا الْعُمُومِ وَذَلِكَ كَالظَّنِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُقَوِّمِينَ وَالْمُفْتِينَ وَالرُّوَاةِ لِلْأَحَادِيثِ وَالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَظَاهِرِ الْعُمُومَاتِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا تَحْصُلُ الظُّنُونُ الْمَأْذُونُ فِي الْعَمَلِ بِهَا فَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ الظُّنُونِ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ اعْتَبَرْنَاهُ وَمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَبْقَيْنَاهُ تَحْتَ نَهْيِ الْآيَةِ .
الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ : أَنْ نَقُولَ لَا نَقُولُ بِالْعُمُومِ فِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ الظُّنُونِ بَلْ نَقُولُ هَذَا الْبَعْضُ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ الظَّنِّ بِعَيْنِهِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مُهِمٌّ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ ظَنٍّ حَرَّمْنَاهُ كَالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِ الْفَاسِقِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ
[ ص: 19 ] الْمُثِيرَاتِ لِلظَّنِّ الَّتِي حُرِّمَ عَلَيْنَا اعْتِبَارُ الظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْهَا وَمَا لَمْ يَدُلَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ قُلْنَا هُوَ مُبَاحٌ عَمَلًا بِالْبَرَاءَةِ فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي فَنَقُولُ قَاعِدَةً وَهِيَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي التَّكْلِيفِ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَقْدُورٍ مُكْتَسَبٍ دُونَ الضَّرُورِيِّ اللَّازِمِ الْوُقُوعِ أَوْ اللَّازِمِ الِامْتِنَاعِ فَإِذَا وَرَدَ خِطَابٌ وَكَانَ مُتَعَلِّقُهُ مَقْدُورًا حُمِلَ عَلَيْهِ نَحْوَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَوْ غَيْرَ مَقْدُورٍ صُرِفَ الْخِطَابُ لِثَمَرَتِهِ أَوْ لِسَبَبِهِ وَمِثَالُ مَا يُحْمَلُ عَلَى ثَمَرَتِهِ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=2وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فَالرَّأْفَةُ أَمْرٌ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ قَهْرًا عِنْدَ حُصُولِ أَسْبَابِهَا فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى الثَّمَرَةِ وَالْآثَارِ وَهُوَ تَنْقِيصُ الْحَدِّ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ لَا نُنْقِصُ الْحَدَّ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَكُونُ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ .
وَمِثَالُ مَا هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ وَيُحْمَلُ عَلَى سَبَبِهِ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=133سَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } وَالْمَغْفِرَةُ مُضَافَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ مَقْدُورَةً لِلْعَبْدِ فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ سَارِعُوا إلَى سَبَبِ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ أَوْ عَبَّرَ بِالْمَغْفِرَةِ عَنْ سَبَبِهَا مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ عَكْسُ الْأَوَّلِ وقَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَالطَّلَاقُ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى سَبَبِهِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنْتِ طَالِقٌ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ ، وقَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=102وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَالْمَوْتُ لَا يُنْهَى عَنْهُ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى سَبَبٍ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَوْتِ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ تَقْدِيمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ وَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ فَيَأْتِي الْمَوْتُ حِينَئِذٍ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَمَّا تَعَذَّرَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الظَّنِّ نَفْسِهِ فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى آثَارِهِ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ وَآثَارُهُ التَّحَدُّثُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِمَا ظُنَّ فِيهِ أَوْ أَذِيَّتُهُ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ بَلْ يَكُفُّ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يُوجَدَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ يُبِيحُ ذَلِكَ .