( الفرق الثامن والعشرون بين يقضى به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف القولي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها ) قاعدة العرف الفعلي
وذلك أن العرف القولي أن تكون عادة أهل العرف يستعملون اللفظ في معنى معين ولم يكن ذلك لغة وذلك قسمان أحدهما في المفردات نحو الدابة للحمار والغائط للنجو والرواية للمزادة ونحو ذلك وثانيهما في المركبات وهو أدقها على الفهم وأبعدها عن التفطن وضابطها أن يكون شأن الوضع العرفي تركيب لفظ مع لفظ يشتهر في العرف تركيبه مع غيره وله مثل أحدهما نحو قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } وكقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } فإن التحريم والتحليل إنما تحسن إضافتهما لغة للأفعال دون الأعيان فذات الميتة لا يمكن العرفي أن يقول هي الإحرام بما هي ذات بل فعل يتعلق بها وهو المناسب لها كالأكل للميتة والدم ولحم الخنزير والشرب للخمر والاستمتاع للأمهات ومن ذكر معهن ومن هذا الباب قوله عليه السلام { } والأعراض والأموال لا تحرم بل أفعال تضاف إليها فيكون التقدير إلا وإن سفك دمائكم وأكل أموالكم وثلب أعراضكم عليكم حرام وعلى هذا المنوال جميع ما يرد من الأحكام كان أصله أن يضاف إلى الأفعال ويركب معها فإذا ركب مع الذوات في العرف وما [ ص: 172 ] بقي يستعمل في العرف إلا مع الذوات فصار هذا التركيب الخاص وهو تركيب الحكم مع الذوات موضوعا في العرف للتعبير به عن تحريم الأفعال المضافة لتلك الذوات وليس كل الأفعال بل فعل خاص مناسب لتلك الذوات كما تقدم تفصيله وتحصيله ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا
وثانيها أفعال ليست بأحكام كقولهم في العرف أكلت رأسا وأكل رأسا فلا يكادون ينطقون بلفظ الأكل كيفما كان وتصرف إلا مع رءوس الأنعام دون جميع الرءوس بخلاف رأيت وما تصرف منه يركبونه مع رءوس الأنعام وغيرها فإذا قالوا رأينا رأسا احتمل ذلك جميع الرءوس بخلاف لفظ الأكل ومن هذا الباب قتل زيد عمرا هو في اللغة موضوع لإذهاب الحياة ثم هو اليوم في إقليم مصر موضوع للضرب خاصة فيقولون قتله الأمير بالمقارع قتلا جيدا ولا يريدون إلا ضربه فهو من باب المنقولات العرفية والأوضاع العرفية هي الطارئة على اللغة وأمكن في هذا المثال أن يقال إنه ليس من هذا الباب بل المجاز هاهنا في مفرد لا مركب وهو لفظ قتل صار وحده مجازا في ضرب وأما التركيب فهو على موضعه اللغوي وهذا هو الصحيح في هذا المثال ومن هذا الباب قولهم فلان يعصر الخمر مع أن الخمر لا تعصر بل صار هذا التركيب موضعا لعصر العنب ومقتضى اللغة أن لا يصح هذا الكلام إلا بمضاف محذوف تقديره فلان يعصر عنب الخمر لكن أهل العرف لا يقصدون هذا المضاف بل يعبرون بهذا المركب عن عصر العنب كما يعبرون بتحريم الميتة عن تحريم أكلها فهذا مجاز في التركيب بالنسبة إلى اللغة حقيقة عرفية منقولة للمعنى الخاص .
ومن هذا الباب قول أهل العرف قتل فلان قتيلا وطحن دقيقا وهذا كلام صحيح في العرف وفي اللغة لا يصح لأن القتيل لا يقتل وإنما يقتل الحي ، والدقيق لا يطحن وإنما يطحن القمح فعلى رأي أهل اللغة يصح بمضاف محذوف تقديره طحن قمح دقيق كما قررناه في عنب خمر وقتل جسد قتيل ويريدون بالجسد الجسد الحي ، وأما أهل العرف فلا يعرجون على هذه المضافات ولا تخطر ببالهم بل صار هذا اللفظ المركب موضوعا عندهم لقتل الحي وطحن القمح ، وعلى هذا المنوال فاعتبر الحقائق العرفية في المفردات والمركبات ، واعتبر اللفظ هل انتقل في العرف أم لا مفردا أو مركبا وبذلك يعرف المجاز في التركيب والإفراد فكل لفظ مفرد انتقل في العرف لغير مسماه وصار يفهم منه غير مسماه بغير قرينة كالدابة بالنسبة إلى الحمار بإقليم مصر فهو مجاز مفرد ومنقول عرفي في المفردات وكل لفظ كان شأنه أن يركب مع لفظ فصار يركب مع غيره ولو ركب أولا لكان منكرا وهو الآن غير منكر فهو منقول عرفي من المركبات ومجاز في المركبات ويكون المجاز فيه وقع في التركيب دون الإفراد فهي ثلاثة أقسام مجاز مفرد فقط كالأسد للرجل الشجاع ومجاز مركب فقط نحو قوله تعالى { وقد يجتمع [ ص: 173 ] المجاز في التركيب والإفراد واسأل القرية } فإن السؤال استعمل في السؤال ولفظ القرية استعمل في القرية ولكن تركيب السؤال مع القرية مجاز في التركيب لأن شأنه أن يركب مع أهلها وهذا مجاز في التركيب ولم يصل إلى حد النقل بخلاف يعصر الخمر ويطحن الدقيق فإنهما وصلا إلى حد النقل العرفي .
ومثال اجتماعهما معا قولك أرواني الخبز وأشبعني الماء فإنك تستعمل أرواني في الشبع ، والشبع في رواني فيقع المجاز في الإفراد وتجعل فاعل أروى الخبز وهو خلاف أصل اللغة وفاعل الشبع الماء وهو خلاف أصل اللغة فهذان المثالان جمعا بين المجاز في الإفراد والتركيب دون النقل العرفي إذا ظهر لك أن العرف كما ينقل أهله اللفظ المفرد فينقلون أيضا اللفظ المركب فمثل هذا النقل العرفي يقدم على موضوع اللغة لأنه ناسخ للغة والناسخ يقدم على المنسوخ فهذا هو معنى قولنا إن الحقائق العرفية مقدمة على الحقائق اللغوية . وأما فمعناه أن يوضع اللفظ لمعنى يكثر استعمال أهل العرف لبعض أنواع ذلك المسمى دون بقية أنواعه مثاله أن لفظ الثوب صادق لغة على ثياب الكتان والقطن والحرير والوبر والشعر وأهل العرف إنما يستعملون من الثياب الثلاثة الأول دون الأخيرين فهذا عرف فعلي وكذلك لفظ الخبز يصدق لغة على خبز الفول والحمص والبر وغير ذلك من أن أهل العرف إنما يستعملون الأخير في أغذيتهم دون الأولين فوقوع الفعل في نوع دون نوع لا يخل بوضع اللفظ للجنس كله فإن ترك مسمى لفظ لم يباشر لا يخل بوضع اللفظ فإنا لم نباشر الياقوت ولم يخل ذلك بوضع لفظ الياقوت له نعم لو كثر استعمال الياقوت في نوع آخر من الأحجار حتى صار لا يفهم إلا ذلك الحجر دون الياقوت لأجل ذلك بوضع لفظ الياقوت للياقوت وكان ذلك نسخا للفظ الياقوت عن مسماه الأول فهذا المثال يوضح لك أن ترك مباشرة المسميات لا يخل بالوضع وغلبة استعمال لفظ المسمى في غيره يخل ، فهذا هو تحرير العرف القولي وتحرير العرف الفعلي ، وتحرير أن العرف القولي يؤثر في اللفظ اللغوي تخصيصا وتقييدا وإبطالا وأن العرف الفعلي لا يؤثر في اللفظ اللغوي تخصيصا ولا تقييدا ولا [ ص: 174 ] إبطالا لعدم معارضة الفعل وعدمه لوضع اللغة ومعارضة غلبة استعمال اللفظ في العرف للوضع اللغوي . العرف الفعلي
وقد حكى جماعة من العلماء الإجماع في أن ورأيت العرف الفعلي لا يؤثر بخلاف العرف القولي المازري في شرح البرهان حاول الإجماع في ذلك ونقل عن بعض الناس أنه نقل خلافا في ذلك ونقل مثلا عنه وفي ذلك نظر وقد نقلتها في شرح المحصول وبينت معناها وأنه ليس خلافا في اعتبار العرف الفعلي بل لذلك معنى آخر والظاهر حصول الإجماع فيه ولم أر أحدا جزم بحصول الخلاف فيه بل رأى كلاما لبعض الناس أوجب شكا وترددا وهو محتمل للتأويل فلا تناقض بين نقل الإجماع في المسألة وبين هذه المثل المشار إليها وأنا أوضح هذا الفرق بينهما بذكر أربع مسائل ( المسألة الأولى )
إذا فرضنا فإنا نحنثه بأي ثوب لبسه وبأي خبز أكله سواء كان من معتاده في فعله أم لا وهذا إذا لم تجر له عادة باستعمال اللغة العربية لأنه لو كانت عادته استعمال اللغة العربية لكان طول أيامه يقول أكلت خبزا وأتوني بخبز وعجلوا بالخبز والخبز على المائدة قليل ونحو ذلك ولا يريد في هذا النطق كله إلا خبز الشعير الذي جرت عادته به فيصير له في لفظ الخبز عرف قولي ناسخ للغة فلا نحنثه بغير خبز [ ص: 175 ] الشعير وكذلك القول في ثوب القطن بخلاف إذا كان لا ينطق بلفظ الخبز والثوب إلا على الندرة فإنه لا يكون له في الألفاظ اللغوية عرف مخصص يقدم على اللغة فيحنث بعموم المسميات اللغوية من غير تخصيص ولا تقييد فتأمل ذلك . ( المسألة الثانية ) ملكا أعجميا يتكلم بالعجمية وهو يعرف اللغة العربية غير أنه لا يتكلم بها لثقلها عليه فحلف لا يلبس ثوبا ولا يأكل خبزا وكان حلفه بهذه الألفاظ العربية التي لم تجر عادته باستعمالها وعادته في غذائه لا يأكل إلا خبز الشعير ولا يلبس إلا ثياب القطن
إذا يحنث بجميع الرءوس عند حلف لا يأكل رءوسا ابن القاسم ولا يحنث إلا برءوس الأنعام عند والقولان مبنيان على أن أهل العرف قد نقلوا هذا اللفظ المركب أكلت رءوسا لا كل رءوس الأنعام دون غيرها بسبب كثرة استعمالهم لذلك المركب في هذا النوع خاصة دون بقية أنواع الرءوس فهذا مدرك أشهب فيقدم النقل العرفي على الوضع اللغوي أشهب وابن القاسم يسلم استعمال أهل العرف لذلك ولكن لم يصل الاستعمال عنده إلى هذه الغاية الموجبة للنقل فإن الغلبة قد تقصر عن النقل ألا ترى أن أهل العرف يستعملون لفظ الأسد في الرجل الشجاع استعمالا كثيرا .
ولم يصل ذلك إلى حد النقل فإنه لا يفهم منه الرجل الشجاع إلا بقرينة وضابط النقل أن يصير المنقول إليه هو المتبادر الأول من غير قرينة وغيره هو المفتقر إلى القرينة فهذا هو مدرك القولين فاتفق أشهب وابن القاسم على أن النقل العرفي مقدم على اللغة إذا وجد واختلفا في وجوده هنا فالكلام بينهما في تحقيق المناط ولو قال القائل رأيت رأسا لم تختلف الناس أن اللفظ لا يختص برءوس الأنعام بل يصح ذلك لكل من يسمى رأسا لغة بسبب أن هذا التركيب الذي هو رأيت رأسا لم يكثر استعماله في نوع معين من الرءوس دون غيره حتى صار منقولا بخلاف أكلت رأسا فيقر اللفظ على مسماه اللغوي من غير معارض ولا ناسخ وكذلك خلق الله رأسا وسقطت ووقعت رأس وهذه رأس وفي البيت رأس جميع هذه التراكيب ونحوها لم يقع فيها نقل عرفي بخلاف قوله أكلت رأسا ونحوه من صيغ الأكل فإن أهل العرف كثر استعمالهم له حتى صار إلى حيز النقل فقدم على اللغة عند من ثبت عنده النقل فتأمل هذه المسألة فكثير من الشراح والفقهاء إذا مر بهذه المسألة يقول فيها لا يحنث بغير رءوس الأنعام لأن عادة الناس يأكلون رءوس الأنعام دون غيرها ولا تجد في الكتب الموضوعة للشراح غير هذه العبارة وهي باطلة لأنهم يشيرون إلى العرف الفعلي الملغي بالإجماع وإنما المدرك العرف القولي على ما تقدم تحريره .
[ ص: 176 ] ( المسألة الثالثة ) إذا فمشهور فتاوى الأصحاب على أنه يلزمه كفارة يمين وعتق رقبة إن كان عنده وإن كثروا وصوم شهرين متتابعين والمشي إلى حلف بأيمان المسلمين تلزمه فحنث بيت الله في حج أو عمرة وطلاق امرأته واختلفوا هل واحدة أو ثلاث والتصدق بثلث المال ولم يلزموه اعتكاف عشرة أيام ولا المشي إلى مسجد المدينة ولا لبيت المقدس ولا الرباط في الثغور الإسلامية ولا تربية اليتامى ولا كسوة العرايا ولا إطعام الجياع ولا شيئا من القربات غير ما تقدم ذكره وسبب ذلك أنهم لاحظوا ما غلب الحلف به في العرف وما يجعل يمينا في العادة فألزموا إياه لأنه المسمى العرفي فيقدم على المسمى اللغوي ويختص حلفه بهذه المذكورات دون غيرها لأنها المشتهرة ولفظ الحلف والأيمان إنما تستعمل فيها دون غيرها وليس المدرك أن عادتهم يفعلون مسمياتها وأنهم يصومون شهرين متتابعين أو يحجون أو غير ذلك من الأفعال بل لغلبة استعمال الألفاظ في هذه المعاني دون غيرها لأجل ذلك صرحوا وقالوا من جرت عادته بالحلف بصوم لزمه صوم سنة فجعلوا المدرك الحلف اللفظي دون العرف الفعلي فهذا هو مدرك هذه المسألة على التحرير والتحقيق وعلى هذا لو اتفق في وقت آخر اشتهار حلفهم ونذرهم للاعتكاف والرباط وإطعام الجيعان وكسوة العريان وبناء المساجد دون هذه الحقائق المتقدم ذكرها لكان اللازم لهذا الحالف إذا حنث الاعتكاف وما ذكر معه دون ما هو مذكور قبله لأن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت . وتبطل معها إذا بطلت
كالنقود في المعاملات والعيوب في الأعراض في البياعات ونحو ذلك فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها دون ما قبلها وكذلك إذا كان الشيء عيبا في الثياب في عادة رددنا به المبيع فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبا موجبا لزيادة الثمن لم ترد به وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه بل قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا وعلى هذا التحرير يظهر أن عرفنا اليوم ليس فيه الحلف بصوم شهرين متتابعين فلا تكاد تجد أحدا بمصر يحلف به فلا ينبغي الفتيا به وعادتهم يقولون عبدي حر وامرأتي طالق وعلي مكة ومالي صدقة إن لم أفعل كذا فتلزم هذه الأمور وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره [ ص: 177 ] على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده واجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين المشي إلى والسلف الماضين وعلى هذه القاعدة تتخرج فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية . أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات
وقد تصير الكناية صريحا مستغنية عن النية واعلم أن في هذه المسألة غورا آخر وهو أن لفظ اليمين في اللغة هو القسم فقط ثم إن أهل العرف يستعملونه في النذر أيضا وهو ليس قسما بل إطلاق اليمين عليه إما مجاز لغوي أو بطريق الاشتراك وعلى التقديرين فجمع الأصحاب في هذه المسألة بين كفارة يمين وبين هذه الأمور التي جرت عادتها تنذر كالصوم ونحوه والطلاق الذي ليس هو قسما ولا نذرا يقتضي ذلك استعمال اللفظ المشترك في جميع معانيه إن قلنا إن لفظ اليمين حقيقة في الجميع أو الجمع بين المجاز والحقيقة وهي مسألة مختلف فيها بين العلماء هل تجوز أم لا أعني هل يكون ذلك كلاما عربيا أم لا والمنقول عن مالك وجماعة من العلماء جواز ذلك فهذه القاعدة لا بد من ملاحظتها في هذه المسألة أيضا . ( المسألة الرابعة ) إذا والشافعي فتخرج ما يلزمه على هذه القاعدة وما جرت به العادة في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم تكن له نية فأي شيء جرت به عادة ملوك الوقت في التحليف به في بيعتهم واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفا ومنقولا متبادرا للذهن من غير [ ص: 178 ] قرينة على القانون المتقدم حمل يمينه عليه وإن لم يكن الأمر كذلك اعتبرت نيته أو بساط يمينه فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه فتأمل ذلك . قال أيمان البيعة تلزمني