( الفرق الرابع والتسعون والمائة بين قاعدة ما يسد من الذرائع وقاعدة ما لا يسد منهما )
اعلم أن الذريعة هي الوسيلة للشيء وهي ثلاثة أقسام منها ما أجمع الناس على سده ومنها ما أجمعوا على عدم سده ومنها ما اختلفوا فيه ، فالمجمع على عدم سده كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر والتجاور في البيوت خشية الزنا فلم يمنع شيء من ذلك ، ولو كان وسيلة للمحرم ، وما أجمع على سده كالمنع من سب الأصنام عند من يعلم أنه يسب الله تعالى حينئذ ، وكحفر الآبار في طرق المسلمين إذا علم وقوعهم فيها أو ظن وإلقاء السم في أطعمتهم إذا علم أو ظن أنهم يأكلونها فيهلكون والمختلف فيه كالنظر إلى المرأة ؛ لأنه ذريعة للزنا ، وكذلك الحديث معها ومنها بيوع الآجال عند رحمه الله ويحكى عن المذهب المالكي اختصاصه بسد الذرائع ، وليس كذلك ، بل منها ما أجمع عليه كما تقدم وحينئذ يظهر عدم فائدة استدلال الأصحاب على الشافعية في سد الذرائع بقوله تعالى { مالك : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } وبقوله تعالى { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } فذمهم لكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم بحبس الصيد يوم الجمعة وبقوله عليه السلام { اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها } وبإجماع الأمة على جواز البيع والسلف مفترقين وتحريمهما مجتمعين لذريعة الربا ، ولقوله عليه السلام { لعن الله } خشية الشهادة بالباطل ومنع شهادة الآباء للأبناء والعكس ، فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها وهي لا تفيد فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة ، وهذا مجمع عليه وإنما النزاع في الذرائع خاصة وهي بيوع الآجال ونحوها فينبغي أن تذكر أدلة خاصة لمحل النزاع وإلا فهذه لا تفيد وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن يكون حجتهم القياس خاصة ويتعين حينئذ عليهم إبداء الجامع [ ص: 267 ] حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ويكون دليلهم شيئا واحدا وهو القياس وهم لا يعتقدون أن مدركهم هذه النصوص ، وليس كذلك فتأمل ذلك ، بل يتعين أن يذكروا نصوصا أخر خاصة لا يقبل الله شهادة خصم ولا ظنين خاصة ويقتصرون عليها ، نحو ما في الموطإ أن بذرائع بيوع الآجال أم ولد زيد بن أرقم قالت لعائشة رضي الله عنها يا أم المؤمنين إني بعت من عبدا بثمانمائة درهم إلى العطاء واشتريته بستمائة نقدا فقالت زيد بن أرقم عائشة رضي الله عنها بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أخبري زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب قالت أرأيتني إن أخذته برأس مالي فقالت عائشة رضي الله عنها { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله } فهذه هي صورة النزاع ، وهذا التغليظ العظيم لا تقوله رضي الله عنها إلا عن توقيف فتكون هذه الذرائع واجبة السد وهو المقصود
( سؤال ) من خيار الصحابة والصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول سادة أتقياء فكيف يليق به فعل ما يقال فيه ذلك زيد بن أرقم
( جوابه ) قال صاحب المقدمات أبو الوليد بن رشد هذه المبايعة كانت بين أم ولد زيد بن أرقم ومولاها قبل العتق فيتخرج قول عائشة رضي الله عنها على تحريم الربا بين السيد وعبده مع القول بتحريم هذه الذرائع ولعل لا يعتقد تحريم الربا بين السيد وعبده قال ولا يحل لمسلم أن يعتقد في زيد بن أرقم زيد أنه وطئ أم ولده على شراء الذهب بالذهب متفاضلا إلى أجل
( سؤال ) إذا قلنا بالتحريم على رأي عائشة رضي الله عنها فما معنى إحباط الجهاد وإحباط الأعمال لا يكون إلا بالشرك
( جوابه ) أن الإحباط إحباطان إحباط إسقاط وهو إحباط الكفر للأعمال الصالحة فلا يفيد شيء منها معه وإحباط موازنة وهو وزن العمل الصالح بالسيئ فإن رجح السيئ فأمه هاوية والصالح فهو في عيشة راضية كلاهما معتبر غير أنه يعتبر أحدهما بالآخر ومع الكفر لا عبرة ألبتة فالإحباط في الأثر إحباط موازنة بقي كيف يحبط هذا الفعل جملة ثواب الجهاد قلت له معنيان
( أحدهما ) أن المراد المبالغة في الإنكار لا التحقيق
( وثانيها ) أن مجموع الثواب المتحصل من الجهاد ليس باقيا بعد هذه السببية ، بل بعضه ، فيكون الإحباط في المجموع من حيث هو مجموع وظاهر الإحباط والتوبة أنه معصية أما يترك التعلم لحال هذا العقد قبل القدوم عليه ؛ لأنه اجتهد فيه ورأت أن اجتهاده مما يجب نقضه وعدم إقراره فلا يكون حجة له أو هو ممن يقتدى به [ ص: 268 ] فخشيت أن يقتدي به الناس فينفتح باب الربا بسببه ، فيكون ذلك في صحيفته فيعظم الإحباط في حقه ومن هذا الباب في الإحباط قوله عليه السلام { } أي بالموازنة ووافقنا من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله أبو حنيفة في سد وابن حنبل التي هي صورة النزاع وإن خالفنا في تفصيل بعضها . ذرائع بيوع الآجال
وقال يمتنع أبو حنيفة بما تمتنع به من البائع وخالفنا بيع السلعة من أب البائع رضي الله عنه واحتج بقوله تعالى { الشافعي وأحل الله البيع وحرم الربا } وبما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { خيبر كله هكذا فقالوا إنا نبتاع الصاع بالصاعين من تمر الجمع فقال عليه السلام لا تفعلوا هذا ، ولكن بيعوا تمر الجمع بالدراهم واشتروا بالدراهم جنيبا } فهو بيع صاع بصاعين وإنما توسط بينهما عقد الدراهم فأبيح والجواب عن الأول أن ما ذكرناه خاص وما ذكرتموه عام والخاص مقدم على العام على ما تقرر في علم الأصول ، وعن الثاني إنا إنما امتنع أن يكون العقد الثاني من البائع الأول ، وليس ذلك مذكورا في الخبر مع أن بيع النقد إذا تقابضا فيه ضعفت التهمة وإنما المنع حيث تقوى واحتج أيضا بأن العقد المقتضي للفساد لا يكون فاسدا إذا صحت أركانه كبيع السيف من قاطع الطريق والعنب من الخمار مع أن الفساد في قطع الطريق أعظم من سلف جر نفعا لما فيه من ذهاب النفوس والأموال ، وجوابه أن الفساد ليس مقصودا للقصد بالذات بخلاف عقود صور النزاع فإن تلك الأعراض الفاسدة هي الباعثة على العقد ؛ لأنه المحصل لها والبيع ليس محصلا لقطع الطريق وعمل الخمر . أتي بتمر جنيب فقال أتمر