( المسألة الخامسة ) في صحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم { مسلم جريج فقال : اللهم أمي وصلاتي قال : فقالت : يا جريج . [ ص: 144 ] قال : اللهم أمي وصلاتي فقالت : اللهم لا يموت حتى ينظر في وجه المياميس وكانت تأتي إلى صومعته راعية ترعى الغنم فولدت فقيل لها : ممن هذا الولد ؟ فقالت : من جريج نزل من صومعته فواقعني } وساق الحديث وهذا الحديث يدل على نادت امرأة ابنها وهو في صومعته يصلي قالت يا ويلزم من ذلك أن لا تكون واجبة بالشروع أو يقال ما وجب بالشروع يقطع للأبوين بخلاف الواجب بالأصالة مع أن في الاستدلال بالحديث نظرا وهو أنه ليس فيه إلا أن الله استجاب دعاءها فيه واستجابة الدعاء لا يتعين أنه لوجوب حق الداعي وأنه مظلوم وقد ثبت في كتاب المنجيات والموبقات في فقه الأدعية أن دعاء الظالم قد يستجاب في المظلوم ويجعل الله تعالى دعاءه سببا لضرر يحصل للمظلوم لأجل ذنب تقدم من المظلوم وعصيانه لله تعالى بغير طريق هذا الداعي كما أن ظلم هذا الظالم ابتداء يكون بسبب ذنوب تقدمت للمظلوم ويكون الظالم سبب وصول العقوبة إليه فكذلك يجعل الله تعالى دعاءه سبب نقمته كما جعل يده ولسانه سببي نقمته والكل بذنوب سالفة للمظلوم فلا يستبعد استجابة دعاء الظالم في المظلوم وإنما كان يمتنع ذلك أن لو كان دعاؤه إنما يستجاب بسبب حق الظالم والظالم ليس له حق فلا يستجاب وليس كذلك بل يستجاب بسبب حقوق لغيره لقوله تعالى { وجوب طاعة الأم في قطع النافلة وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } .
وبهذا التقرير يظهر ضعف الاستدلال بهذا الحديث فإنه ليس فيه إلا استجابة الدعاء ومما يدل على تقديم طاعتهما على المندوبات ما في أن { مسلم } فجعل عليه السلام الكون مع الأبوين أفضل من الكون معه وجعل خدمتهما أفضل من الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما في أول الإسلام ومع أنه لم يقل في الحديث أنهما منعاه بل هما موجودان فقط فأمره عليه السلام بالأفضل في حقه وهو الكون معهما وفرض الجهاد فرض كفاية يحمله الحاضرون عند النبي صلى الله عليه وسلم عنه ويندرج في هذا المسلك غسل الموتى ومواراتهم وجميع فروض الكفاية إذا وجد من يقوم بها وهذا الحديث أعظم دليل وأبلغ في أمر الوالدين فإنه عليه الصلاة والسلام رتب هذا الحكم على مجرد وصف الأبوة مع قطع النظر عن أمرهما وعصيانهما [ ص: 145 ] وحاجتهما للولد وغير ذلك من الأمور الموجبة لبرهما بل مجرد وصف الأبوة مقدم على ما تقدم ذكره وإذا نص النبي عليه الصلاة والسلام على تقديم صحبتهما على صحبته عليه السلام فما بقي بعد هذه الغاية غاية وإذا قدم خدمتهما على فعل فروض الكفاية فعلى النفل بطريق الأولى بل على المندوبات المتأكدة وقد روي في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { رجلا قال : يا رسول الله أبايعك على الهجرة والجهاد قال : هل من والديك أحد حي ؟ قال : نعم كلاهما قال : فتبتغي الأجر من الله تعالى ؟ قال : نعم قال : فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما لو كان جريج فقيها لعلم أن إجابة أمه أفضل من صلاته } لأنه في ذلك الوقت كان الكلام الذي يحتاج إليه في الصلاة مباحا كما كان في أول شرعنا وعلى هذا التقدير يندفع الإشكال ويكون جريج عصى بترك طاعتهما في أمر مباح أو مندوب إليه وهو الصمت حينئذ .
فوائد في الحديث المتقدم : المياميس الزواني جمع زانية ووجه المناسبة أنه لما منع أمه من النظر إلى وجهه محتجا بالصلاة دعت عليه بأن ينظر إلى وجوه الزواني عقوبة على الامتناع من النظر إلى وجهها ويدل الحديث أيضا على منع السفر المباح إلا بإذنهما فإن غيبة الوجه فيه أعظم ويدل أيضا على وجوب طاعتهما في النوافل ويدل أيضا على أن العقوق يؤاخذ به الإنسان وإن عظم قدره في الزهد والعبادة لأن جريجا كان من أعبد بني إسرائيل وخرقت له العادات وظهرت له الكرامات فما ظنك بغيره إذا عق أبويه ويدل على تحريم أصل العقوق قوله تعالى { فلا تقل لهما أف } وإذا حرم هذا القول حرم ما فوقه بطريق الأولى ويدل على مخالفتهما في الواجبات قوله تعالى { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } وفي الآية فائدتان : الفائدة الأولى أن ويحرم عقوقهما وإن كانا كافرين فإنه لا يأمر بالشرك إلا كافر ومع ذلك فقد صرحت الآية بوجوب برهما الفائدة الثانية أن مخالفتهما واجبة في أمرهما بالمعاصي ويؤكد ذلك قوله عليه السلام { الأبوين يجب برهما } . لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق