الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( ووقته للحج شوال لآخر ذي الحجة )

                                                                                                                            ش : الضمير عائد إلى الإحرام ولما كان الإحرام ركنا للحج والعمرة بدأ بالكلام على وقت الإحرام بالحج ; لأنه هو المقصود ثم بعد ذلك ذكر وقت الإحرام بالعمرة ، واعلم أن للإحرام ميقاتين : أحدهما زماني ، والآخر مكاني ، ومراد المؤلف : بيان الأول فمعنى كلامه : أن الميقات الزماني للإحرام بالحج من أول شوال إلى آخر الحجة ، والميقات إن كان مأخوذا من الوقت الذي هو الزمان ، فإطلاقه على المكاني إنما هو بالحقيقة الشرعية ; لأنه قال في الحديث : { وقت لأهل المدينة ذا الحليفة } الحديث ، وإن كانا مأخوذين من التوقيت والتأقيت اللذين هما بمعنى التحديد فكل منهما حقيقة لغوية باقية على أصلها ، وفي كلام المصنف رحمه الله مسامحة ; لأن وقت الشيء ما يفعل فيه ، وليس ذو الحجة بكماله وقتا للإحرام بل بعضه ، والذي ذكره المصنف إنما هي أشهر الحج .

                                                                                                                            وأما الميقات الزماني فهو كما قال ابن عرفة : وميقاته الزماني في الحج ما قبل زمن الوقوف من الشهر ، وهو شوال وتالياه وآخرها روى ابن حبيب عشر ذي الحجة ، ونقل اللخمي وأيام الرمي ، وذكر ابن شاس رواية أشهب باقيه انتهى .

                                                                                                                            لكن في عبارة ابن عرفة - رحمه الله تعالى - حذف ، وتقديره : ما قبل آخر زمن الوقوف إلخ ولعله يريد وقته المختص به دون الوقوف ومثله قول اللخمي للحج وقت يبتدأ فيه عقده ومنتهى محل منه بينه ، والأصل في ذلك قوله تعالى { الحج أشهر معلومات } فأولها : شوال واختلف عن مالك في آخرها فقال : عشر من ذي الحجة ، وقال : ذو الحجة كله ، وقال : شوال وذو القعدة إلى الزوال من تسع ذي الحجة محل لعقد الإحرام والطواف والسعي لمن أتى من الحل ، فإذا زالت [ ص: 16 ] الشمس كانت وقتا للوقوف إلى طلوع الفجر من العاشر ، فإذا طلع الفجر صار وقتا للوقوف بالمشعر ما لم تطلع الشمس ويستحب أن لا يؤخر لبعد الأسفار ، وكذلك أيضا صار وقتا للرمي والنحر لمن تعجل من ضعفة النساء والصبيان ثم ذلك وقت للرمي والنحر والحلاق والطواف ما لم تغرب الشمس ، وهذا هو المستحب ، فإن أخر ذلك إلى آخر أيام الرمي فعل وأجزأه ، ولا دم عليه لما أخر من الحلاق والطواف ; لأنه وقت له ، واختلف في الدم عن تأخير رمي جمرة العقبة إذا أخرها رماها قبل أن تخرج أيام التشريق ، فإن خرجت لم ترم .

                                                                                                                            وكان عليه الدم ، واختلف إذا أخر الطواف والحلاق بعد أن خرجت أيام التشريق فقيل : عليه الدم ، وقيل : لا دم عليه ; لأن الوقت باق حتى يخرج الشهر ، فإن خرج الشهر كان عليه الدم قولا واحدا ، وعليه أن يحلق ويطوف انتهى .

                                                                                                                            ومرادهم أن بالزوال من التاسع انقطع وقت الإحرام فقد صرح اللخمي وغيره بأن من أسلم أو احتلم أو أعتق بعرفة عشية أو قبل أن يطلع الفجر أحرم حينئذ ووقف بها وتم حجه ، ونقله في النوادر عن الموازية في أول كتاب الحج من النوادر ، والله أعلم .

                                                                                                                            والمسامحة التي في كلام المصنف واقعة في كلام ابن رشد وابن الحاجب والقرافي وابن الحاج وصاحب الشامل وغيرهم ، ويمكن أن يكون مرادهم أن هذه الأشهر وقت لعقد الإحرام والإحلال منه ، وعلى كل حال ففيه مسامحة ; لأن المقصود بيان الوقت الذي يبتدأ فيه الإحرام بالحج لا وقت التحلل منه فتأمله ، والله أعلم .

                                                                                                                            ولا خلاف أن أول أشهر الحج شوال واختلف في آخرها على ثلاث روايات المتقدمة .

                                                                                                                            قال في التوضيح : والمشهور : أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة حملا للفظ على حقيقته انتهى .

                                                                                                                            وكذلك قال ابن القصار ، وهو الذي اختاره من قولي مالك وجهه قوله تعالى { الحج أشهر معلومات } فأتى بلفظ الجمع ، وأقله اثنان أو ثلاثة ، ولا خلاف أنه لم يرد هنا شهرين فلم يبق إلا أن يريد ثلاثة أشهر انتهى .

                                                                                                                            من منسك ابن الحاج ، ولم يذكر ابن الحاج وعبد الحق وسند وغيرهم إلا قولين إلى آخر ذي الحجة أو إلى عاشره ، وذكر ابن شاس وتابعوه وغيرهم القول الثالث إلى آخر أيام الرمي وعزا الشارح في الوسط القول بأن آخرها عشر ذي الحجة لابن عبد الحكم ، وعلى هذين القولين الأخيرين يكون إطلاق الأشهر على ذلك مجازا قال ابن الحاجب وفائدة الخلاف دم تأخير الإفاضة قال في التوضيح فعلى المشهور : لا يلزمه إلا بتأخيره إلى المحرم ، وعلى العشر يلزمه إذا أخره إلى الحادي عشر وهكذا قال الباجي وعبد الحق واللخمي وغيرهم .

                                                                                                                            وليس ما زعمه ابن الحاج في مناسكه من أنه اختلاف عبارة وأنه لا خلاف في أنه لا يجب الدم إلا بخروج الشهر بجيد انتهى وما ذكره عن ابن الحاج هو في أوائل مناسكه قال بعد أن ذكر عن الباجي أن فائدة الخلاف ما تقدم : والصحيح أنه اختلاف في عبارة ، وليس بين القولين اختلاف في أن طواف الإفاضة لا يجب بتأخيره دم حتى يتأخر عن ذي الحجة كله انتهى .

                                                                                                                            ، ما ذكره المؤلف عن عبد الحق فظاهر كلامه في النكت خلاف ذلك ونصه : قال عبد الحق : وأشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة كله في بعض الروايات ، وفي بعضها وعشر ذي الحجة ويحتمل أنه إنما قال : ذو الحجة كله في إحدى الروايات من أجل أن من أخر طواف الإفاضة لا يتعلق عليه الدم حتى يفرغ ذو الحجة ويدخل المحرم فلذلك عبر عن جميعه بأنه من أمر الحج وأعرف أني رأيت نحو هذا لبعض من تقدم من العلماء انتهى .

                                                                                                                            فتأمله ، وكذلك ليس في كلام اللخمي ما يدل على أنه إذا أخره عن يوم النحر يلزمه دم بل صرح بنفي الدم إذا أوقعه في أيام التشريق ، ولم يذكر فيه خلافا كما تقدم لفظه ، وقال في موضع آخر : وقال : يعني مالكا فيمن أخر الإفاضة وطاف بعد أن ذهبت أيام منى إن قرب فلا شيء عليه ، وإن تطاول فعليه الدم ، وقد اختلف قوله : [ ص: 17 ] في معنى قول الله { الحج أشهر معلومات } فقال مرة شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة ، وقال مرة ذو الحجة كله فعلى هذا لا يكون عليه هدي إلا أن يؤخر الحلاق والإفاضة حتى يخرج ذو الحجة ، وعلى القول الآخر عليه الدم إذا خرجت أيام منى وقوله : في المدونة : لا دم عليه في تأخير الطواف ، وإن خرجت أيام منى ما لم يطل استحسان للاختلاف في الأصل انتهى .

                                                                                                                            فأنت تراه لم يحك وجوب الدم إلا بعد خروج أيام منى لكن في بنائه ذلك على القول بأن آخرها عشر ذي الحجة نظر بل الظاهر : على هذا القول - كما قال المؤلف - : أنه يلزم الدم بتأخيره إلى الحادي عشر لكن لم يصرح به بل صرح صاحب الطراز بنفي الخلاف في ذلك ، ونصه : وجملة ذلك أن طواف الإفاضة يجوز تأخيره عن أيام منى حتى مع القول بأن أشهر الحج إلى آخر يوم النحر ، ولا يختلف المذهب أن من أخره عن يوم النحر لا شيء عليه بل لا يعرف في الأمة خلاف ذلك انتهى .

                                                                                                                            فعلى هذا في إطلاق ابن الحاجب أن فائدة الخلاف تظهر في الدم وقبول ابن عبد السلام والمصنف لذلك ، وما ذكره عن الباجي نظر أو يكون من اختلاف الطرق ويبقى النظر في نقل المصنف ذلك عن عبد الحق واللخمي وأشار ابن عرفة إلى أن ظاهر توجيه اللخمي لقول مالك في المدونة المتقدم بأنه استحسان لرعي الخلاف أن الاختلاف في لزوم الدم ليس مبنيا على الخلاف في أشهر الحج قال إثر نقله الخلاف في كلامه المتقدم الباجي : فائدة دم تأخير الإفاضة فتوجيه اللخمي قوله فيها إن أفاض قرب أيام منى فلا دم ، وإن طال فالدم لرعي الخلاف خلافه انتهى .

                                                                                                                            ، ولا يظهر ما أشار إليه ابن عرفة بل صريح كلام اللخمي أن لزوم الدم ترتب على الخلاف إلا أنه لما كان قوله : في المدونة ، وإن أطال فعليه الدم غير محدود بوقت ، ولا يتفرع على قول من أقواله كما قال ابن عبد السلام ، فإنه لما ذكر التفريع المذكور ذكر بعده لفظ المدونة ثم قال : وذلك خارج عما قالوه انتهى .

                                                                                                                            ، وكذلك أشار صاحب الطراز إلى أن قول ابن القاسم بعدم التحديد مخالف للتحديد بآخر ذي الحجة فلما رأى اللخمي ذلك قال إنه استحسان فتأمله ، والله أعلم .

                                                                                                                            ولم يفرع في التوضيح على القول بأن آخرها أيام الرمي ، وفرع عليه ابن عبد السلام فقال : ومن أوقعه في اليوم الرابع عشر لزمه الدم على مذهب من يرى أن الغاية آخر أيام الرمي ، وعلى القول الذي قبله انتهى .

                                                                                                                            فتحصل من هذا أن في آخر أشهر الحج ثلاث روايات والمشهور منها : أن آخرها آخر ذي الحجة ، وهل الخلاف في ذلك خلاف في عبارة ، وهو قول ابن الحاج أولا ، وعليه فهل لا خلاف في عدم لزوم الدم بتأخيره عن يوم النحر ، وهو قول سند ، وظاهر كلام اللخمي وعبد الحق أو يدخله الخلاف أيضا ، وهو ظاهر ما نقل عن الباجي ، وظاهر كلام ابن الحاجب وابن شاس وصريح كلام ابن عبد السلام والمصنف فتأمله ، والله أعلم .

                                                                                                                            وأما التوفيق بين كلام المدونة والمشهور فسيأتي إن شاء الله عند ذكر المؤلف للزوم الدم ، والله أعلم .

                                                                                                                            وسمي أولها شوالا ; لأنه يخرج فيه الحجاج فتشول الإبل بأذنابها أي : ترفعها مأخوذ من قولهم : شال الشيء يشول شولا ارتفع ، وشلت به : لازم يتعدى بحرف الجر ، وهو بالضم من باب فعل قال في الصحاح ، ولا تقل : شلت يعني بكسر الشين ، والجمع شوالات ، وشوائل ، وشواويل وذو القعدة بفتح القاف وكسرها وكذا ذو الحجة بفتح الحاء وكسرها ، والفتح فيها أشهر سمي الأول بذلك ; لأنهم كانوا يقعدون فيه عن القتال ، وسمي الآخر بذلك لوقوع الحج فيه ، والجمع ذوات القعدة وذوات الحجة ، ولم يقولوا ذوو على واحدة ومن يسمي شوالا عادلا ; لأنه كان يعدلهم عن الإقامة في أوطانهم ، وقد حلت ويسمى ذو القعدة هراعا ; لأنه يهرع الناس أي : يخرجهم إلى الحج يقال : هاع فلان إذا قاء ، ويسمى ذا الحجة بركا بضم الراء وفتحها [ ص: 18 ] لأنه وقت الحج فتكثر فيه البركات ولها أسماء أخر بلغة العرب العاربة فيسمون شوالا جيفلا وذا القعدة مجلسا وذا الحجة مسبلا ، والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية