ومما يؤيد مذهبنا أنه إذا أحصر في حجة الفرض ، وحل منها القضاء عند الأربعة كما في التطوع عندنا ; فإن لم يكن لنا دليل إلا في مسألة العمرة على الحج لما بينهما من المناسبة التامة ، والمقارنة في الآية حيث قال تعالى وأتموا الحج والعمرة لله لكان كافيا .
وأما ما توهم بعضهم من أن الفرق هو أن النفل لا يلزم بالشروع عند الشافعية وأتباعهم ، فمدفوع بأن الحج والعمرة استثني لهم من تلك القاعدة ، فمن شرع في حج نفل أو عمرة فيجب عليه إتمامها إجماعا لظاهر قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله ، ونحن قسنا سائر الأعمال من الصلاة والصوم عليهما مع دلالة عموم قوله تعالى ولا تبطلوا أعمالكم ومنع قبح الملاعبة في أمر الدين بأن يشرع في عبادة ثم يتركها ثم يفعلها ثم يبطلها وهلم جرا وقالبن حجر المراد بالقضاء هنا القضية أي : المقاضاة والمصالحة لا القضاء الشرعي لأن عمرتهم التي تحللوا منها بالحديبية لم يلزمهم قضاؤها كما هو شأن المحصر عندنا انتهى . وفيه ما لا يخفى ( ) أي : والحال أن وابن رواحة - صلى الله عليه وسلم - ( وهو ) أي : ابن رواحة ، وهو أحد شعراء النبي ( يقول خلوا ) أي : دوموا على التخلية ; لأنهم يومئذ تركوا ابن رواحة مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ( بني الكفار ) بحذف حرف النداء أي : يا أولاد الكفرة بالله ورسوله ( عن سبيله ) بإشباع كسرة الهاء على ما في الأصل الأصيل ، وسائر الأصول المعتمدة ، وفي بعض النسخ بسكون الهاء ، والمعنى اتركوا سبيله في دخول الحرم المحترم ، وادخلوا في سبيله من الدين الأقوم ( اليوم ) أي : هذا الوقت الذي لنا الغلبة عليكم بمقتضى قضية الحديبية ( نضربكم ) بسكون الباء للضرورة أي : نضربكم على تقدير نقض عهدكم ، وقصد منعكم ( على تنزيله ) أي : بناء على كونه - صلى الله عليه وسلم - رسولا منزلا عليه الوحي من عند الله أو بناء على تنزيلكم [ ص: 51 ] إياه وإعطاء العهد والأمان له في دخول حرم الله ، وعلى كل فالضمير في كلا المصراعين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الظاهر .
وحاصله أنه من إضافة المصدر إلى مفعوله ، سواء لاحظنا الفاعل المقدر أنه هو الله تعالى ، وهو أولى بالحقيقة ، أو راعينا المجاز ، فأضفنا التنزيل إليهم لكونهم السبب في نزوله حيث جوزوا له في قصد وصوله وغرض حصوله ، ولا شك في ظهور هذا المحل لفظا ومعنى .
وأبعد ابن حجر حيث جعل الضمير راجعا إلى القرآن وإن لم يتقدم له ذكر ; لأنه ذكر ما يفهمه نحو توارت بالحجاب ( ضربا ) مفعول مطلق أي : ضربا عظيما ( يزيل ) أي : الضرب ، والإسناد مجازي ( الهام ) أي : جنس الرأس مبالغة ; فإن مفرده هامة ، وهي الرأس أو وسطه ، والمراد رءوس الكفار ، ورؤساء أهل النار ( عن مقيله ) أي : عن مكانه ، ومحل روحه ، وموضع استراحته فأريد به التجريد أو التشبيه والتقييد . وتوضيحه أن المقيل مكان القيلولة ، وهو موضع الاستراحة فجرد وأريد به مطلق المكان أو شبه به العنق بجامع محل استراحة الرأس ، وبقائه وعلى هذين التقديرين يصير المعنى يزيل الرأس عن العنق أو المقيل كناية عن النوم لما علمت أنه محل الاستراحة وهي موجودة في النوم أي : يمنع الرأس عن النوم ، والاستراحة به لشدة ما يقاسيه على ملاحظة نوع قلب من الكلام ، فكأنه قال : ضربا يطرد النوم عن الرأس ; فإنه لم يوجد إلا عند كمال الأمن كما قال تعالى إذ يغشيكم النعاس أمنة منه قال ابن حجر : وروى هذا عبد الرزاق أيضا من الوجهين لكنه أبدل عجز الأول بقوله .
قد أنزل الرحمن في تنزيله .
وزاد عقبة بأن خير القتل في سبيله .
نحن قتلناكم على تأويله
.
كما قتلناكم على تنزيله
وأخرج الطبراني والبيهقي بلفظ المصنف لكنه ابتدأ بعجز الأول ، وجعل عجز الثاني .
يا رب إني مؤمن بقيله .
وزاد على هذا . ابن إسحاق
إني رأيت الحق في قبوله
.( ويذهل ) وفي نسخة ، ويذهب والأول أولى مناسبة لقوله تعالى يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت والمعنى وضربا يبعد ويشغل ( الخليل عن خليله ) أي : فيصير اليوم من حيث أن كلا يخشى فوات نفسه ، وذهاب نفسه كيوم القيامة يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ولا تسأل عمن كان به جميع أنسابها ، ولكل امرئ يومئذ شأن يغنيه من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ( عمر : يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) بتقدير الاستفهام أي : أقدام رسول الله ( فقال له ) أي : وقد ذم الشعر في كلامه تعالى ، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أيضا ( فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - خل عنه ) أي : اتركه مع شعره ; فإنه ليس ذم الشعر على إطلاقه ( يا وفي حرم الله تقول شعرا عمر ) فيجب عليك أيها أن تفرق بين أفراده ; فإن الفاروق ، وإنما يطلق ذمه على إرادة التجريد له ، وترك ما يجب من العلم ، والعمل وإلا فالكلام له تأثير بليغ لا سيما إذا كان منظوما على طريقة البلغاء ، وخطباء الفصحاء ( فلهي ) اللام للابتداء تأكيدا ، وهي راجعة إلى الأبيات أو الكلمات أو إلى القصيدة المدلول عليها بقوله شعرا ، وقيل راجع إلى الشعر [ ص: 52 ] باعتبار معناه المقصود وهو القصيدة أي : فلتأثيرها ( أسرع فيهم ) أي : أعجل وأنفع في قلوبهم أو في إيذائهم ( من نضح النبل ) أي : من رميه مستعار من نضح الماء ، واختير لكونه أسرع نفوذا وأعجل سراية ، والمعنى أن هجاءهم أثر فيهم تأثير النبل ، وقام مقام الرمي في النكاية بهم بل هو أقوى عليهم لا سيما مع المشافهة به كما قيل شعر : جراحات السنان لها التئام . الشعر كسائر الكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح
ولا يلتام ما جرح اللسان أي : الكلام ولو قيل الكلام مكان اللسان لكان البيت مطلقا في غاية من البيان ، والنبل هو السهام العربية لا واحد لها من لفظه ، ولعل اختيار النبل على الرمح ، والسيف لأنه أكثر تأثيرا ، وأسرع تنفيذا مع إمكان إيقاعه من بعد إرسالا ، وهو أبعد منهما دفعا وعلاجا .
روي عن أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - كعب بن مالك
" إن المؤمن يجاهد بسيفه ، ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم بنضح النبل " . إن الله تعالى قد أنزل في الشعر ما أنزل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال النووي : في حديث أنس ، وشعر بيان هجو الكفار ، وأذاهم ما لم يكن لهم أمان لأن الله تعالى أمر بالجهاد فيهم ، والإغلاظ عليهم لأن في الإغلاظ عليهم بيانا لنقصهم ، والاقتصار منهم بهجائهم المسلمين ، ولا يجوز ابتداء لقوله تعالى عبد الله بن رواحة ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم .