الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة أي : إن الموت حتم لا مفر منه ولا مهرب ، فهو لا بد أن يدرككم في أي مكان كنتم ولو تحصنتم منه في البروج المشيدة ، وهي القصور العالية التي يسكنها الملوك والأمراء فيعز الارتقاء إليها بدون إذنهم ، أو الحصون المنيعة التي تعتصم فيها حامية الجند ، شيد البناء يشيده علاه وأحكم بناءه ، وأصله أن يبنيه بالشيد وهو - بالكسر - كل ما يطلى به الحائط كالجص والبلاط ، يقال : شاد البناء إذا جصصه ، قال في اللسان : وكل ما أحكم من البناء فقد شيد ، وتشييد البناء إحكامه ورفعه ، أي : لأن في التفعيل معنى من المبالغة والكثرة في الشيء ، وأجاز الراغب أن يكون المراد بالبروج بروج النجم ويكون استعمال لفظ المشيدة فيها على سبيل الاستعارة وتكون الإشارة بالمعنى إلى نحو ما قال زهير :


                          ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو نال أسباب السماء بسلم

                          وإذا كان الموت لا مفر عنه ولا عاصم ، وكان المرء يخوض معامع القتال فيصاب ولا يموت ، ويخاطر بنفسه فيها أحيانا فلا يصاب بجرح ولا يقتل ، وقد يموت المعتصم في البروج والحصون اغتضارا ، وإذا كان الإقدام على القتال هو أقوى أسباب النجاة من القتل لأن الجبناء يغرون أعداءهم بأنفسهم لعدم دفاعهم عنها ، وإذا كان الاستعداد للقتال والإقدام فيه لأجل الدفاع عن الحق وحماية الحقيقة ومنع الباطل أن يسود والشر أن يفشو - موجبا لمرضاة الله ولسعادة الآخرة ، فما هو عذركم أيها القاعدون المبطئون ؟


                          وطعم الموت في أمر حقير     كطعم الموت في أمر عظيم

                          [ ص: 217 ] فلماذا تختارون لأنفسكم الحقير على العظيم ، وهذا ليس من شأن العقلاء والمؤمنين ؟

                          كان من مرض قلوب هؤلاء أن كرهوا القتال وجبنوا عنه وخافوا الناس وتمنوا بذلك طول البقاء ، فكان هذا صدعا في دينهم وعقولهم قامت به عليهم الحجة ، ثم ذكرنا شأنا آخر من شئونهم يشبهه في الدلالة على مرض القلب والعقل فقال :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية