الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ) جمع تعالى في هذه الآية المنزلة بين ثلاثة آيات سماوية ، بعد الجمع فيما قبلها بين ثلاث آيات أرضية ( فالآية الأولى ) فلق الإصباح ، والمراد به الصبح وأصله مصدر " أصبح الرجل " إذا دخل في وقت الصباح ومن الشواهد عليه قول امرئ القيس :


                          ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل

                          .

                          وقرأ الحسن بفتح الهمزة وأنشد قول الشاعر :


                          أفنى رياحا وبني رياح     تناسخ الإمساء والإصباح

                          .

                          بالكسر والفتح - مصدرين ، وجمع مساء وصبح ، وفلق الإصباح عبارة عن فلق ظلمة الليل وشقها بعمود الصبح الذي يبدو في جهة مطلع الشمس من الأفق مستطيلا ، فلا يعيد به حتى يصير مستطيرا ، تتفرى الظلمة عنه من أمامه وعن جانبيه إلى أن تنقشع وتزول ; ولذلك سمي فجرا فإن الفجر بمعنى الفلق كما تقدم آنفا . والله تعالى هو فالق الإصباح بنور الشمس [ ص: 528 ] الذي يتقدمها ; إذ هو خالقها ومقدر مواقع الأرض منها في سيرها ، كما نبينه في الآية الثالثة من آيات هذه الآية فإنها معللة للآيتين قبلها ، والمراد من التذكير بالآية الأولى التأمل في صنع الله بفري الليل إذا عسعس ، عن صبحه إذا تنفس ، وإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود ، ومبدأ زمن تقلب الأحياء في القيام والقعود ، والركوع والسجود ، ومضيهم في تجلي النهار إلى ما يسروا له من الأعمال ، وما لله في ذلك من نعم وحكم وأسرار . ويدل على ذلك ذكر الآية الثانية بفائدتها ، وهي آية الليل يجعله الله سكنا ، فهذا المذكور يدل على مقابلة المحذوف ، وهو جعل النهار وقتا للحركة بالسعي للمعاش ، والعمل الصالح للمعاد ، وقد صرح بنوعي الفائدتين في آيات كقوله تعالى : ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) 28 : 73 فهذه الآية على إيجازها جامعة للفوائد الدنيوية والدينية ، وفيها اللف والنشر ، أي لتسكنوا في الليل وتطلبوا الرزق من فضل الله في النهار ، وليعدكم لشكر نعمه عليكم بهما ، وبمنافعكم في كل منهما . ومن الآيات المصرحة بذكرهما ما قرن بالتذكير بفائدتهما الدنيوية فقط كقوله تعالى : ( وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا ) 78 : 10 ، 11 ومنها ما قرن بالتذكير بفائدتهما الدينية فقط كقوله تعالى : ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) 25 : 62 فيا لله من إيجاز القرآن وبلاغته ، في اختلاف عبارته ! ! .

                          قرأ عاصم والكسائي " وجعل الليل " بالفعل الماضي ، وقرأه الجمهور بصيغة اسم الفاعل " وجاعل " ورسمهما في المصحف الإمام واحد ، والأولى تقوي جانب الإعراب ; فإن الشمس والقمر المعطوفين على الليل منصوبان بإجماع القراء ، ولا يظهر نصبهما على القراءة الثانية إلا بتقدير جعل ، أو جعل " جاعل " بمعناه ، وهو تكلف يجتنب في الفصيح . والثانية تناسب السياق والنسق بعطف الاسم على الاسم وهو الأصل الذي لا يخرج عنه في الفصيح إلا لنكتة . فبالجمع بين القراءتين زال التكلف وتم التناسب ، فيا لله من فصاحة القرآن في عبارته ، واختلاف قراءته ! ! .

                          والسكن - بالتحريك - السكون وما يسكن فيه من مكان كالبيت وزمان كالليل ، وكذا ما يسكن إليه ، وهو ما اختاره الكشاف هنا قال : السكن ما يسكن إليه الرجل أي وغيره ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه من زوج أو حبيب ، ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها ، ألا تراهم سموها المؤنسة ، والليل يطمئن إليه المتعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه . ويجوز أن يراد وجعل الليل مسكونا فيه من قوله : ( لتسكنوا فيه ) انتهى . وهذا الأخير المرجوح عنده هو الراجح المختار عندنا إلا أنه يجوز الجمع بينهما ، ودليل الترجيح نص ( لتسكنوا فيه ) وكون المسكون فيه أعم وأظهر من المسكون إليه ; فإن كثيرا من الناس يستوحشون من الليل ولا يأنسون به ، وإن كان له على آخرين أياد جلية أو خفية ، [ ص: 529 ] تنقض مذهب المانوية ، فيستطيله المرضى والمهمومون والمهجورون ، ويستقصره العابدون الواصلون ، والعاشقون الموصولون ، فذلك يقول ما أطوله ويطلب انجلاءه ، وهذا يقول ما أقصره ويتمنى بقاءه :


                          يود أن سواد الليل دام له     وزيد فيه سواد القلب والبصر

                          .

                          والمراد بالسكون فيه ما يعم سكون الجسم وسكون النفس . أما سكون الجسم فبراحته من تعب العمل بالنهار ، وأما سكون النفس فبهدوء الخواطر والأفكار ، والليل زمن السكون لأنه لا يتيسر فيه من الحركة وأنواع الأعمال ما يتيسر في النهار ، لما خص به الأول من الإظلام والثاني من الإبصار ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ) 17 : 12 فأكثر الأحياء من إنسان وحيوان تترك العمل والسعي في الليل وتأوي إلى مساكنها ; للراحة التي لا تتم وتكمل إلا بالنوم الذي تسكن به الجوارح والخواطر ببطلان حركتها الإرادية ، كما تسكن به الأعضاء الرئيسية سكونا نسبيا بقلة حركتها الطبيعية ، فتقل نبضات القلب بوقوفها بين كل نبضتين ، ويقل إفراز خلايا الجسم للسوائل والعصارات التي تفرزها ، ويبطئ التنفس ويقل ضغط الدم في الشرايين ، ولا سيما في أول النوم إذ تكون الحاجة إلى الراحة به على أشدها ، ويضعف الشعور حتى يكاد يكون مفقودا ، فيستريح الجهاز العصبي ولا سيما الدماغ والحبل الشوكي ، وتستريح جميع الأعضاء باستراحته ، ونقل الفضلات التي تنحل من البدن وتكثر الدقائق التي تتكون من الدم لتحل محلها . وإنما تكثر الفضلات وانحلال الذرات بكثرة العمل ، فالعمل العقلي يجهد الدماغ ، والعضلي يجهد الأعضاء العاملة ، فتزداد الحرارة ويكثر الاحتراق بحسب كثرة العمل وتكون الحاجة إلى الراحة بالنوم بقدر ذلك ، وقد علل النوم تعليلات كثيرة ، ولما يصل العلماء إلى كشف سره واستجلاء كنه سببه .

                          وأما الآية الثالثة الكونية في الآية فهي جعل الشمس والقمر حسبانا أي علمي حساب ، لأن طلوعهما وغروبهما وما يظهر من تحولاتهما واختلاف مظاهرهما كل ذلك بحساب كما قال تعالى : ( الشمس والقمر بحسبان ) 55 : 5 فما هنا بمعنى آية الإسراء ( 17 : 12 ) التي ذكرت آنفا وآية يونس ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ) 10 : 5 فالحساب بالكسر والحسبان بالضم مصدران لحسب يحسب ( من باب نصر ) وهو استعمال العدد في الأشياء والأوقات ، وأما الحسبان بالكسر فهو مصدر حسب ( بوزن علم ) وفضل الله تعالى في ذلك عظيم ; فإن حاجة الناس إلى معرفة حساب الأوقات لعباداتهم ومعاملاتهم وتواريخهم لا تخفى على أحد منهم في جملتها ، وعند خواص العلماء من ذلك ما ليس عند غيرهم ، وعلماء الفلك والتقاويم متفقون في هذا العصر [ ص: 530 ] على أن للأرض حركتين ، حركة تتم في 24 ساعة وهي مدار حساب الأيام ، وحركة تتم في سنة وبها يكون اختلاف الفصول وعليها مدار حساب السنين الشمسية ، ولعلنا نشرح هذا في تفسير سورة يونس وغيرها .

                          ( ذلك تقدير العزيز العليم ) أي ذلك الجعل العالي الشأن ، البعيد المدى في الإبداع والإتقان ، فوق بعد النيرات عن الإنسان ، الترتب على ما ذكر من سبب اختلاف الأيام والفصول وتقدير السنن الشمسية ، ومن تشكلات القمر التي نعرف بها الشهور القمرية ، هو تقدير الخالق الغالب على أمره في تنظيم ملكه ، الذي وضع المقادير والأنظمة الفلكية وغيرها بما اقتضاه واسع علمه ، فهذا النظام والإبداع من آثار عزته وعلمه عز وجل ، فليس في ملكه جزاف ولا خلل ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) 54 : 49 .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية