الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3990 ) فصل : وإن غصب ثوبا فصبغه ، لم يخل من ثلاثة أقسام : أحدها ، أن يصبغه بصبغ له . والثاني ، أن يصبغه بصبغ للمغصوب منه . الثالث ، أن يصبغه بصبغ لغيرهما . والأول لا يخلو من ثلاثة أحوال ; أحدها ، أن يكون الثوب والصبغ بحالهما ، لم تزد قيمتهما ولم تنقص ، مثل إن كانت قيمة كل واحد منهما خمسة ، فصارت قيمتهما بعد الصبغ عشرة ، فهما شريكان ; لأن الصبغ عين مال له قيمة ، فإن تراضيا بتركه لهما ، جاز ، وإن باعاه ، فثمنه بينهما نصفين .

                                                                                                                                            الحال الثاني ، إذا زادت قيمتهما ، فصارا يساويان عشرين ، نظرت ; فإن كان ذلك لزيادة الثياب في السوق ، كانت الزيادة لصاحب الثوب ، وإن كانت لزيادة الصبغ في السوق ، فالزيادة لصاحبه ، وإن كانت لزيادتهما معا ، فهي بينهما على حسب زيادة كل واحد منهما ، فإن تساويا في الزيادة في السوق ، تساوى صاحباهما فيهما ، وإن زاد أحدهما ثمانية والآخر اثنين ، فهي بينهما كذلك ، وإن زاد بالعمل ، فالزيادة بينهما ; لأن عمل الغاصب زاد به في الثوب والصبغ ، وما عمله في المغصوب للمغصوب منه إذا كان أثرا ، وزيادة مال الغاصب له .

                                                                                                                                            وإن نقصت القيمة لتغير الأسعار ، لم يضمنه الغاصب ; لما تقدم . وإن نقص لأجل العمل ، فهو على الغاصب ; لأنه بتعديه ، فإذا صار قيمة الثوب مصبوغا خمسة ، فهو كله لمالكه ، ولا شيء للغاصب ; لأن النقص حصل بعدوانه ، فكان عليه وإن صارت قيمته سبعة ، صار الثوب بينهما ، لصاحبه خمسة أسباعه ، ولصاحب الصبغ سبعاه .

                                                                                                                                            وإن زادت قيمة الثوب في السوق ، فصار يساوي سبعة ، ونقص الصبغ ، فصار يساوي ثلاثة ، وكانت قيمة الثوب [ ص: 168 ] مصبوغا عشرة ، فهو بينهما ، لصاحب الثوب سبعة ، ولصاحب الصبغ ثلاثة . وإن ساوى اثني عشر ، قسمت بينهما ، لصاحب الثوب نصفها وخمسها ، وللغاصب خمسها وعشرها ، وإن انعكس الحال ، فصار الثوب يساوي في السوق ثلاثة ، والصبغ سبعة انعكست القسمة ، فصار لصاحب الصبغ هاهنا ما كان لصاحب الثوب في التي قبلها ولصاحب الثوب مثل ما كان لصاحب الصبغ ; لأن زيادة السعر لا تضمن ، فإن أراد الغاصب قلع الصبغ ، فقال أصحابنا : له ذلك ، سواء أضر بالثوب أو لم يضر به ، ويضمن نقص الثوب إن نقص .

                                                                                                                                            وبهذا قال الشافعي ; لأنه عين ماله ، فملك أخذه ، كما لو غرس في أرض غيره . ولم يفرق أصحابنا بين ما يهلك صبغه بالقلع ، وبين ما لا يهلك . وينبغي أن يقال : ما يهلك بالقلع لا يملك قلعه ; لأنه سفه .

                                                                                                                                            وظاهر كلام الخرقي أنه لا يمكن من قلعه إذا تضرر الثوب بقلعه ; لأنه قال في المشتري إذا بنى أو غرس في الأرض المشفوعة : فله أخذه ، إذا لم يكن في أخذه ضرر . وقال أبو حنيفة : ليس له أخذه ; لأن فيه ضررا بالثوب المغصوب ، فلم يمكن منه ، كقطع خرقة منه ، وفارق قلع الغرس ; لأن الضرر قليل يحصل به نفع قلع العروق من الأرض .

                                                                                                                                            وإن اختار المغصوب منه قلع الصبغ ، ففيه وجهان ; أحدهما ، يملك إجبار الغاصب عليه ، كما يملك إجباره على قلع شجره من أرضه ، وذلك لأنه شغل ملكه بملكه على وجه أمكن تخليصه ، فلزمه تخليصه ، وإن استضر الغاصب ، كقلع الشجر ، وعلى الغاصب ضمان نقص الثوب ، وأجر القلع ، كما يضمن ذلك في الأرض . والثاني ، لا يملك إجباره عليه ، ولا يمكن من قلعه ; لأن الصبغ يهلك بالاستخراج ، وقد أمكن وصول الحق إلى مستحقه بدونه بالبيع ، فلم يجبر على قلعه ، كقلع الزرع من الأرض ، وفارق الشجر ، فإنه لا يتلف بالقلع .

                                                                                                                                            قال القاضي : هذا ظاهر كلام أحمد ، ولعله أخذ ذلك من قول أحمد في الزرع ، وهذا مخالف للزرع ; لأن له غاية ينتهي إليها ، ولصاحب الأرض أخذه بنفقته ، فلا يمتنع عليه استرجاع أرضه في الحال ، بخلاف الصبغ ، فإنه لا نهاية له إلا تلف الثوب ، فهو أشبه بالشجر في الأرض . ولا يختص وجوب القلع في الشجر بما لا يتلف ، فإنه يجبر على قلع ما يتلف وما لا يتلف .

                                                                                                                                            ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين . وإن بذل رب الثوب قيمة الصبغ للغاصب ليملكه ، لم يجبر على قبوله ; لأنه إجبار على بيع ماله ، فلم يجبر عليه ، كما لو بذل له قيمة الغراس . ويحتمل أن يجبر على ذلك إذا لم يقلعه ، قياسا على الشجر ، والبناء في الأرض المشفوعة ، والعارية ، وفي الأرض المغصوبة إذا لم يقلعه الغاصب ، ولأنه أمر يرتفع به النزاع ، ويتخلص به أحدهما من صاحبه من غير ضرر ، فأجبر عليه ، كما ذكرنا .

                                                                                                                                            وإن بذل الغاصب قيمة الثوب لصاحبه ليملكه ، لم يجبر على ذلك ، كما لو بذل صاحب الغراس قيمة الأرض لمالكها في هذه المواضع . وإن وهب الغاصب الصبغ لمالك الثوب ، فهل يلزمه قبوله ؟ على وجهين : أحدهما ، يلزمه ; لأن الصبغ صار من صفات العين ، فهو كزيادة الصفة في المسلم فيه .

                                                                                                                                            الثاني ، لا يجبر ; لأن الصبغ عين يمكن إفرادها ، فلم يجبر على قبولها . وظاهر كلام الخرقي أنه يجبر ; لأنه قال في الصداق : إذا كان ثوبا فصبغه ، فبذلت له نصفه مصبوغا ، لزمه قبوله . وإن أراد المالك بيع الثوب ، وأبى الغاصب ، فله بيعه ; لأنه ملكه ، فلا يملك الغاصب منعه من بيع ملكه بعدوانه .

                                                                                                                                            وإن أراد الغاصب بيعه ، لم يجبر المالك على بيعه ; لأنه متعد ، فلم يستحق إزالة ملك صاحب الثوب عنه بعدوانه . ويحتمل أن يجبر [ ص: 169 ] ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه . القسم الثاني ، أن يغصب ثوبا وصبغا من واحد ، فيصبغه به ، فإن لم تزد قيمتهما ولم تنقص ، ردهما ولا شيء عليه . وإن زادت القيمة فهي للمالك ، ولا شيء للغاصب ; ولأنه إنما له في الصبغ أثر لا عين . وإن نقصت بالصبغ ، فعلى الغاصب ضمان النقص ; لأنه بتعديه .

                                                                                                                                            وإن نقص لتغير الأسعار لم يضمنه . القسم الثالث ، أن يغصب ثوب رجل وصبغ آخر ، فيصبغه به ، فإن كانت القيمتان بحالهما ، فهما شريكان بقدر مالهما ، وإن زادت ، فالزيادة لهما ، وإن نقصت بالصبغ ، فالضمان على الغاصب ، ويكون النقص من صاحب الصبغ ; لأنه تبدد في الثوب ، ويرجع به على الغاصب ، وإن نقص لنقص سعر الثياب ، أو سعر الصبغ ، أو لنقص سعرهما ، لم يضمنه الغاصب ، وكان نقص مال كل واحد منهما من صاحبه .

                                                                                                                                            وإن أراد صاحب الصبغ قلعه ، أو أراد ذلك صاحب الثوب ، فحكمهما حكم ما لو صبغه الغاصب بصبغ من عنده ، على ما مر بيانه . وإن غصب عسلا ونشاء ، وعقده حلواء ، فحكمه حكم ما لو غصب ثوبا فصبغه ، على ما ذكر فيه . الحكم الثاني ، أنه متى كان للمغصوب أجر ، فعلى الغاصب أجر مثله مدة مقامه في يديه ، سواء استوفى المنافع أو تركها تذهب . هذا هو المعروف في المذهب . نص عليه أحمد ، في رواية الأثرم . وبه قال الشافعي .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا يضمن المنافع . وهو الذي نصره أصحاب مالك . وقد روى محمد بن الحكم ، عن أحمد ، في من غصب دارا فسكنها عشرين سنة : لا أجترئ أن أقول عليه سكنى ما سكن . وهذا يدل على توقفه عن إيجاب الأجر ، إلا أن أبا بكر قال : هذا قول قديم ; لأن محمد بن الحكم مات قبل أبي عبد الله بعشرين سنة . واحتج من لم يوجب الأجر ، بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { الخراج بالضمان } . وضمانها على الغاصب ، ولأنه استوفى منفعة بغير عقد ولا شبهة ملك ، فلم يضمنها ، كما لو زنى بامرأة مطاوعة .

                                                                                                                                            ولنا ، أن كل ما ضمنه بالإتلاف في العقد الفاسد ، جاز أن يضمنه بمجرد الإتلاف ، كالأعيان ، ولأنه أتلف متقوما ، فوجب ضمانه ، كالأعيان . أو نقول : مال متقوم مغصوب ، فوجب ضمانه ، كالعين . فأما الخبر ، فوارد في البيع ولا يدخل فيه الغاصب ; لأنه لا يجوز له الانتفاع بالمغصوب بالإجماع ، ولا يشبه الزنى ; لأنها رضيت بإتلاف منافعها بغير عوض ، ولا عقد يقتضي العوض ، فكان بمنزلة من أعاره داره . ولو أكرهها عليه ، لزمه مهرها .

                                                                                                                                            والخلاف في ما له منافع تستباح بعقد الإجارة ، كالعقار والثياب والدواب ونحوها ، فأما الغنم والشجر والطير ونحوها ، فلا شيء فيها ; لأنه لا منافع لها يستحق بها عوض . ولو غصب جارية ولم يطأها ، ومضت عليها مدة تمكن الوطء فيها ، لم يضمن مهرها ; لأن منافع البضع لا تتلف إلا بالاستيفاء ، بخلاف غيرها ، ولأنها لا تقدر بزمن ، فيكون مضي الزمان بتلفها ، بخلاف المنفعة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية