الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه سويد بن سعيد ، عن علي بن مسهر ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم . ورواه عن أبي مسهر أيضا ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ، ورواه الزبير بن بكار ، عن عبد الملك بن عبد [ ص: 253 ] العزيز بن الماجشون ، عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من عشق ، فعف فمات ، فهو شهيد ) ، وفي رواية : ( من عشق وكتم وعف وصبر ، غفر الله له وأدخله الجنة ) .

فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز أن يكون من كلامه ، فإن الشهادة درجة عالية عند الله ، مقرونة بدرجة الصديقية ، ولها أعمال وأحوال ، هي شرط في حصولها ، وهي نوعان : عامة وخاصة ، فالخاصة : الشهادة في سبيل الله .

والعامة خمس مذكورة في " الصحيح " ليس العشق واحدا منها .

[ ص: 254 ] وكيف يكون العشق الذي هو شرك في المحبة ، وفراغ القلب عن الله ، وتمليك القلب والروح ، والحب لغيره تنال به درجة الشهادة ، هذا من المحال ، فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد ، بل هو خمر الروح الذي يسكرها ، ويصدها عن ذكر الله وحبه ، والتلذذ بمناجاته ، والأنس به ، ويوجب عبودية القلب لغيره ، فإن قلب العاشق متعبد لمعشوقه ، بل العشق لب العبودية ، فإنها كمال الذل والحب والخضوع والتعظيم ، فكيف يكون تعبد القلب لغير الله مما تنال به درجة أفاضل الموحدين وساداتهم ، وخواص الأولياء ، فلو كان إسناد هذا الحديث كالشمس ، كان غلطا ووهما ، ولا يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفظ العشق في حديث صحيح البتة .

ثم إن العشق منه حلال ، ومنه حرام ، فكيف يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يحكم على كل عاشق يكتم ويعف بأنه شهيد ، فترى من يعشق امرأة غيره ، أو يعشق المردان والبغايا ، ينال بعشقه درجة الشهداء ، وهل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه - صلى الله عليه وسلم - بالضرورة ؟ كيف والعشق مرض من الأمراض التي جعل الله سبحانه لها الأدوية شرعا وقدرا ، والتداوي منه إما واجب إن كان عشقا حراما ، وإما مستحب .

وأنت إذا تأملت الأمراض والآفات التي حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابها بالشهادة ، وجدتها من الأمراض التي لا علاج لها ، كالمطعون والمبطون ، والمجنوب والغريق ، وموت المرأة يقتلها ولدها في بطنها ، فإن هذه [ ص: 255 ] بلايا من الله لا صنع للعبد فيها ، ولا علاج لها ، وليست أسبابها محرمة ، ولا يترتب عليها من فساد القلب وتعبده لغير الله ما يترتب على العشق ، فإن لم يكف هذا في إبطال نسبة هذا الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلد أئمة الحديث العالمين به وبعلله ، فإنه لا يحفظ عن إمام واحد منهم قط أنه شهد له بصحة ، بل ولا بحسن ، كيف وقد أنكروا على سويد هذا الحديث ، ورموه لأجله بالعظائم ، واستحل بعضهم غزوه لأجله .

قال أبو أحمد بن عدي في " كامله " : هذا الحديث أحد ما أنكر على سويد ، وكذلك قال البيهقي : إنه مما أنكر عليه وكذلك قال ابن طاهر في " الذخيرة " وذكره الحاكم في " تاريخ نيسابور " وقال : أنا أتعجب من هذا الحديث ، فإنه لم يحدث به عن غير سويد ، وهو ثقة ، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتاب " الموضوعات " ، وكان أبو بكر الأزرق يرفعه أولا عن سويد ، فعوتب فيه ، فأسقط النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يجاوز به ابن عباس رضي الله عنهما .

ومن المصائب التي لا تحتمل جعل هذا الحديث من حديث هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ومن له أدنى إلمام بالحديث وعلله ، لا يحتمل هذا البتة ، ولا يحتمل أن يكون من حديث الماجشون عن ابن أبي حازم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا ، وفي صحته موقوفا على ابن عباس نظر ، وقد رمى الناس سويد بن سعيد راوي هذا الحديث بالعظائم ، وأنكره عليه يحيى بن معين وقال : هو ساقط كذاب ، لو كان لي فرس ورمح كنت أغزوه ، وقال الإمام أحمد : متروك الحديث ، وقال النسائي : ليس بثقة وقال البخاري : كان قد عمي فيلقن ما ليس من حديثه ، وقال ابن حبان : يأتي بالمعضلات عن الثقات يجب مجانبة ما روى . انتهى .

وأحسن ما قيل فيه قول أبي حاتم الرازي : إنه صدوق كثير التدليس ، ثم قول الدارقطني : هو ثقة غير أنه لما كبر كان ربما قرئ عليه حديث فيه بعض النكارة فيجيزه انتهى .

وعيب على مسلم [ ص: 256 ] إخراج حديثه ، وهذه حاله ، ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه غيره ، ولم ينفرد به ، ولم يكن منكرا ولا شاذا بخلاف هذا الحديث ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية