الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) : لما ذكر ما دل على الاختراع ، ذكر ما يدل على طواعية المخترع وسرعة تكوينه . ومعنى قضى هنا : أراد ، أي إذا أراد إنشاء أمر واختراعه . قال ابن عطية : وقضى : معناه قدر ، وقد يجيء بمعنى : أمضى . ويتجه في هذه الآية المعنيان . فعلى مذهب أهل السنة : قدر في الأزل وأمضى فيه ، وعلى مذهب المعتزلة : أمضى عند الخلق والإيجاد . والأمر : واحد الأمور ، وليس هنا مصدر أمر يأمر . والمعتقد في هذه الآية أن الله لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها ، قادرا مع تأخر المقدورات ، عالما مع تأخر وقوع المعلومات . وكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن ، وكل ما استند إلى الله من قدرة وعلم فهو قديم لم يزل . انتهى ما نقلناه هنا من كلامه . وقال المهدوي : ( وإذا قضى أمرا ) ، أي أتقنه وأحكمه وفرغ منه . ومعنى : ( فإنما يقول له كن فيكون ) يقول من أجله . وقيل : قال له كن ، وهو معدوم ؛ لأنه بمنزلة الموجود ، إذ هو عنده معلوم . قال الطبري : أمره للشيء بكن لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلا وهو موجود بالأمر ، ولا موجودا [ ص: 365 ] بالأمر إلا وهو مأمور بالوجود . قال : ونظيره قيام الأموات من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ولا يتأخر عنه ، كما قال : ( ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ) . فالهاء في له تعود على الأمر ، أو على القضاء الذي دل عليه قضى ، أو على المراد الذي دل عليه الكلام . انتهى ما نقلناه من كتابه . وقال مكي : معنى الآية أنه عالم بما سيكون وما هو كائن ، فقوله : كن ، إنما هو للموجود في علمه ليخرجه إلى العيان لنا . انتهى كلامه . وقال الزمخشري : كن فيكون ، من كان التامة ، أي احدث فيحدث ، وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ، ثم كما لا قول في قوله :


إذ قالت الأنساع للبطن الحق



وإنما المعنى : ما قضاه من الأمور وأراد كونه ، فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف . كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ، لا يتوقف ولا يمتنع ، ولا يكون منه الإباء . أكد بهذا استبعاد الولادة ؛ لأن من كان بهذه الصفة من القدرة ، كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها . انتهى كلامه . وقال السجاوندي : كن على التمثيل لنفاذ الأمر ، قال :


فقالت له العينان سمعا وطاعة     وإلا فالمعدوم كيف يخاطب

أو علامة للملائكة بحدوث الموجود ، أو على تقدير ما تصور كونه في علمه ، أو مخصوص في تحويل الموجود من حال إلى حال ، ولو كان كن مخلوقا ، لاحتاج إلى أخرى ولا يتناهى ، فدل على أن القرآن غير مخلوق . انتهى كلامه . قال المهدوي : وفي هذه الآية دليل على أن كلام الله غير مخلوق ؛ لأنه لو كان مخلوقا لكان قائلا له : كن ، ولكان قائلا : لكن كن ، حتى ينتهي ذلك إلى ما لا يتناهى ، وذلك مستحيل مع ما يؤدي إليه ذلك من أنه لا يوجد من الله فعل ألبتة ، إذ لا بد أن يوجد قبله أفعال ، هي أقاويل لا غاية لها ، وذلك مستحيل . ولا يجوز أن يحمل على المجاز ، إذ ذلك إنما يكون في الجمادات ، ولا يكون فيمن يصح منه القول إلا بدليل . ويقوي ذلك أن المصدر فيه الذي هو " قولنا " من قوله : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ، وكد بمصدر آخر ، وهو أن نقول ، وأهل العربية مجمعون ، على أنهم إذا أكدوا الفعل بالمصدر كان حقيقة ، ولذلك جاء قوله : ( وكلم الله موسى تكليما ) إذ كان الله تعالى متولي تكليمه . وقد قيل : إن معنى فإنما يقول له كن فيكون بكونه . انتهى كلام المهدوي . وقال في المنتخب : كن فيكون ليس المراد أنه تعالى يقول كن ، فحينئذ يكون ذلك الشيء ، فإن ذلك فاسد من وجوه ، فلا بد من تأويله ، وفيه وجوه : الأول : - وهو الأقوى - أن المراد نفاذ سرعة قدرة الله في تكوين الأشياء ، وإنما يخلقها لا لفكرة ، ونظيره : ( قالتا أتينا طائعين ) . الثاني : أنها علامة يعقلها الملائكة ، إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا ، قاله أبو الهذيل . الثالث : أنه جاء للموجودين الذين قال لهم : ( كونوا قردة خاسئين ) ، ومن جرى مجراهم ، وهو قول الأصم . الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت ، وللموتى بالحياة ، والكل ضعيف ، والقوي هو الأول . انتهى كلامه .

هذا ما نقلناه من كلام أهل التفسير في الآية . وظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له : كن ، تبينه الآية الأخرى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ، وقوله : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) . لكن دليل العقل صد عن اعتقاد مخاطبة المعدوم ، وصد عن أن يكون الله تعالى محلا للحوادث ؛ لأن لفظة كن محدثة ، ومن يعقل مدلول اللفظ وكونه يسبق بعض حروفه بعضا لم يدخله شك في حدوثه ، وإذا كان كذلك ، فلا خطاب ولا قول لفظيا ، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد وعدم اعتياصه ، فهو من مجاز التمثيل ، وكأنه قدر أن المعدوم موجود يقبل الأمر ويمتثله بسرعة ، بحيث لا يتأخر عن امتثال ما أمر به . وقرأ الجمهور : فيكون بالرفع ، ووجه على أنه على الاستئناف ، أي فهو يكون ، وعزي إلى سيبويه . [ ص: 366 ] وقال غيره : فيكون عطفا على يقول ، واختاره الطبري وقرره . وقال ابن عطية : وهو خطأ من جهة المعنى ؛ لأنه يقتضي أن القول مع التكوين حادث ، وقد انتهى ما رده به ابن عطية . ومعنى رده : أن الأمر عنده قد تم ، والتكوين حادث ، وقد نسق عليه بالفاء ، فهو معه ، أي يعتقبه ، فلا يصح ذلك ؛ لأن القديم لا يعتقبه الحادث . وتقرير الطبري له هو ما تقدم في أوائل الكلام على هذه المسألة ، من أن الأمر لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه . وما رده به ابن عطية لا يتم إلا بأن تحمل الآية على أن ثم قولا وأمرا قديما . أما إذا كان ذلك على جهة المجاز ، ومن باب التمثيل ، فيجوز أن يعطف على نقول . وقرأ ابن عامر : " فيكون " بالنصب ، وفي آل عمران : ( كن فيكون ) ونعلمه ، وفي النحل ، وفي مريم ، وفي يس ، وفي المؤمن . ووافقه الكسائي في النحل ويس ، ولم يختلف في ( كن فيكون الحق ) في آل عمران .

( كن فيكون قوله الحق ) في الأنعام أنه بالرفع ، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن ؛ لأنه جاء بلفظ الأمر ، فشبه بالأمر الحقيقي . ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي ؛ لأن ذلك إنما يكون على فعلين ينتظم منهما شرط وجزاء نحوه : ائتني فأكرمك ، إذ المعنى : إن تأتني أكرمك . وهنا لا ينتظم ذلك ، إذ يصير المعنى : إن يكن يكن ، فلا بد من اختلاف بين الشرط والجزاء ، إما بالنسبة إلى الفاعل ، وإما بالنسبة إلى الفعل في نفسه ، أو في شيء من متعلقاته . وحكى ابن عطية ، عن أحمد بن موسى ، في قراءة ابن عامر : أنها لحن ، وهذا قول خطأ ؛ لأن هذه القراءة في السبعة ، فهي قراءة متواترة ، ثم هي بعد قراءة ابن عامر ، وهو رجل عربي ، لم يكن ليلحن . وقراءة الكسائي في بعض المواضع ، وهو إمام الكوفيين في علم العربية ، فالقول بأنها لحن من أقبح الخطأ المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر ، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية