الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) ؟ تقدم الكلام في التبديل ، أي : من يأخذ الكفر بدل الإيمان ، وهذه كناية عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر ، كما جاء في قوله : ( اشتروا الضلالة بالهدى ) . وفسر الزمخشري هذا بأن قال : ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها . وقال أبو العالية : الكفر هنا : الشدة ، والإيمان : الرخاء . وهذا فيه ضعف ، إلا أن يريد أنهما مستعاران في الشدة على نفسه والرخاء لها عن العذاب والنعيم . وأما المعروف من شدة أمور الدنيا ورخائها ، فلا تفسر الآية بذلك ، والظاهر حمل الكفر والإيمان على حقيقتهما الشرعية ؛ لأن من سأل الرسول ما سأل مع ظهور المعجزات ووضوح الدلائل على صدقه ، كان سؤاله تعنتا وإنكارا ، وذلك كفر .

( فقد ضل سواء السبيل ) : هذا جواب الشرط ، وقد تقدم الكلام على الضلال في قوله : ( ولا الضالين ) ، وعلى " سواء " في قوله : ( سواء عليهم أأنذرتهم ) ، وأن " سواء " يكون بمعنى مستو . ولذلك يتحمل الضمير في قولهم : مررت برجل سواء هو والعدم ، ويوصف به : (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) ، ويفسر بمعنى العدل والنصفة ؛ لأن ذلك مستو ، وقال زهير :


أرونا خطة لا عيب فيها يسوي بيننا فيها السواء



ويفسر بمعنى الوسط . قال تعالى : ( فرآه في سواء الجحيم ) ، أي في وسطها . وقال عيسى بن عمر : كتبت حتى انقطع سواي ، وقال حسان :


يا ويح أنصار النبي ورهطه     بعد المغيب في سواء الملحد



وبذلك فسر السواء في الآية أبو عبيدة ، وفسره الفراء بالقصد . ولما كانت الشريعة توصل سالكها إلى رضوان الله تعالى ، كنى عنها بالسبيل ، وجعل من حاد عنها : كالضال عن الطريق ، وكنى عن سؤالهم نبيهم ما ليس لهم أن يسألوه بتبدل الكفر بالإيمان ، وأخرج ذلك في صورة شرطية ، وصورة الشرط لم تقع بعد تنفيرا عن ذلك ، وتبعيدا منه . فوبخهم أولا على تعلق إرادتهم بسؤال ما ليس لهم سؤاله ، وخاطبهم بذلك ، ثم أدرجهم في عموم الجملة الشرطية . وأن مثل هذا ينبغي أن لا يقع ؛ لأنه ضلال عن المنهج القويم ، فصار صدر الآية إنكارا وتوبيخا ، وعجزها تكفيرا وضلالا . وما أدى إلى هذا فينبغي أن لا يتعلق به غرض ولا طلب ولا إرادة . وإدغام الدال في الضاد من الإدغام الجائز . وقد قرئ : ( فقد ضل ) ، بالإدغام وبالإظهار في السبعة .

( ود كثير من أهل الكتاب ) : المعني بكثير : كعب بن الأشرف ، أو حيي بن [ ص: 348 ] أخطب وأخوه أبو ياسر ، أو نفر من اليهود حاولوا المسلمين بعد وقعة أحد أن يرجعوا إلى دينهم ، أو فنحاص بن عاذوراء وزيد بن قيس ونفر من اليهود حاولوا حذيفة وعمارا في رجوعهما إلى دينهم ، أقوال . والقرآن لم يعين أحدا ، إنما أخبر بودادة كثير من أهل الكتاب . والخلاف في سبب النزول مبني على الخلاف في تفسير كثير من أهل الكتاب ، وتخصصت الصفة بقوله : ( من أهل الكتاب ) ، فلذلك حسن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه . والكتاب هنا : التوراة .

( لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا ) : الكلام في لو هنا ، كالكلام عليها في قوله : ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) . فمن قال : إنها مصدرية ، قال : لو ، والفعل في تأويل المصدر ، وهو مفعول ود : أي ود ردكم ، ومن جعلها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، جعل الجواب محذوفا ، وجعل مفعول ود محذوفا ، التقدير : ود ردكم كفارا ، لو يردونكم كفارا لسروا بذلك . وقال بعض الناس تقديره : لو يردونكم كفارا لودوا ذلك . فود دالة على الجواب ، ولا يجوز لود الأولى أن تكون هي الجواب ؛ لأن شرط لو أن تكون متقدمة على الجواب . انتهى . وهذا الذي قدره ليس بشيء ، لأنك إذا جعلت جواب لو قوله : لودوا ذلك ، كان ذلك دالا على أن الودادة لم تقع ؛ لأنه جواب للو ، وهو لما كان سيقع لوقوع غيره ، فامتنع وقوع الودادة ، لامتناع وقوع الرد . والغرض أن الودادة قد وقعت . ألا ترى إلى أقوال المفسرين في سبب نزول هذه الآية ؟ وهي وإن اختلفت فاتفقوا على وقوع الودادة ، وإن اختلفت أقوالهم بمن وقعت ، وتقدير جواب لو لودوا ذلك ، يدل على أن الودادة لم تقع ، فلذلك كان تقديره لسروا أو لفرحوا بذلك هو المتعين ، إذا جعلت لو تقتضي جوابا . ويرد هنا بمعنى يصير ، فيتعدى إلى مفعولين : الأول هو ضمير الخطاب ، والثاني كفارا ، وقد أعربه بعضهم حالا ، وهو ضعيف ؛ لأن الحال مستغنى عنها في أكثر مواردها ، وهذا لا بد منه في هذا المكان . ومن متعلقة بيرد ، وهي لابتداء الغاية ، وظاهر الواو في يردونكم أنها للجمع ، ومن فسر كثيرا بواحد أو باثنين ، فجعل الواو له أو لهما ، ليس على الأصل .

( حسدا من عند أنفسهم ) : انتصاب حسدا على أنه مفعول من أجله ، والعامل فيه ود ، أي الحامل لهم على ودادة ردكم كفارا هو الحسد ، وجوزوا فيه أن يكون مصدرا منصوبا على الحال ، أي حاسدين ، ولم يجمع لأنه مصدر ، وهذا ضعيف ؛ لأن جعل المصدر حالا لا ينقاس . وجوزوا أيضا أن يكون نصبه على المصدر ، والعامل فيه فعل محذوف يدل عليه المعنى ، التقدير : حسدوكم حسدا . والأظهر القول الأول ؛ لأنه اجتمعت فيه شرائط المفعول من أجله . ويتعلق المجرور الذي هو : ( من عند أنفسهم ) ، إما بملفوظ به وهو ود ، أي ودوا ذلك من قبل شهوتهم ، لا أن ودادتهم ذلك هي من جهة التدين واتباع الحق . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ؟ وإما بمقدر ، فيكون في موضع الصفة ، التقدير : حسدا كائنا من عند أنفسهم . وعلى كلا التقديرين يكون توكيدا ، أي ودادتهم أو حسدهم من تلقائهم . ألا ترى أن ودادة الكفر والحسد على الإيمان لا يكون إلا من عند أنفسهم ؟ فهو نظير ، ( ولا طائر يطير بجناحيه ) . وقيل : يتعلق الجار والمجرور بقوله : يردونكم ، ومن سببية ، أي يكون الرد من تلقائهم وبإغوائهم وتزيينهم .

( من بعد ما تبين لهم الحق ) : تتعلق من هذه بقوله : ود ، أي ودادتهم كفركم للحسد المنبعث من عند أنفسهم . وتلك الودادة ابتدأت من زمان وضوح الحق وتبينه لهم ، فليسوا من أهل الغباوة الذين قد يعزب عليهم وضوح الحق ، بل ذلك على سبيل الحسد والعناد . وهذا يدل على أن الكفر يكون عنادا . ألا ترى إلى ظاهر قوله : ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ؟ قال ابن عطية : واختلف أهل السنة في جواز ذلك . والصحيح عندي جوازه عقلا ، وبعده وقوعا ، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب من ثاني [ ص: 349 ] حال من العناد . انتهى كلامه ، والألف واللام في الحق ، إما للعهد ، ويراد به الإيمان ، ويدل عليه جريانه قبل هذا ، أو الألف واللام للاستغراق ، أي من بعد ما اتضحت لهم وجوه الحق وأنواعه .

( فاعفوا واصفحوا ) ، قال ابن عباس : هي منسوخة بقوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ) . وقيل : بقوله : ( فاقتلوا المشركين ) ، وقال قوم : ليس هذا حد المنسوخ ؛ لأن هذا في نفس الأمر كان للتوقيف على مدته .

( حتى يأتي الله بأمره ) : غيا العفو والصفح بهذه الغاية ، وهذه موادعة إلى أن أتى أمر الله بقتل بني قريظة ، وإجلاء بني النضير وإذلالهم بالجزية ، وغير ذلك مما أتى من أحكام الشرع فيهم وترك العفو والصفح . وقال الكلبي : هو إسلام بعض واصطلام بعض . وقيل : آجال بني آدم . وقيل : القيامة ، وقيل : المجازاة يوم القيامة . وقيل : قوة الرسالة وكثرة الأمة ، والجمهور على أنه الأمر بالقتال . وعن الباقر : أنه لم يؤمر بقتال حتى نزل ( أذن للذين يقاتلون ) ، والأمر بالعفو والصفح هو أن لا يقاتلوا وأن يعرض عن جوابهم فيكون أدعى لتسكين الثائرة وإطفاء الفتنة وإسلام بعضهم ، لا أنه يكون ذلك على وجه الرضا ؛ لأن ذلك كفر .

( إن الله على كل شيء قدير ) : مر تفسير هذه الآية ، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ، ووعد للمؤمنين بالنصر والتمكين . ألا ترى أنه أمر بالموادعة بالعفو والصفح ، وغيا ذلك إلى أن يأتي الله بأمره ، ثم أخبر بأنه قادر على كل شيء ؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية