الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) : هذا توبيخ من الله لهم ، أي إذا كان علم الله محيطا بجميع أفعالهم ، وهم عالمون بذلك ، فكيف يسوغ لهم أن ينافقوا ويتظاهروا للمؤمنين بما يعلم الله منهم خلافه ، فلا يجامع حالة نفاقهم بحالة علمهم بأن الله عالم بذلك ، والأولى حمل ما يسرون وما يعلنون على العموم ، إذ هو ظاهر اللفظ . وقيل : الذي أسروه الكفر ، والذي أعلنوه الإيمان . وقيل : العداوة والصداقة . وقيل : قولهم لشياطينهم إنا معكم ، وقولهم للمؤمنين آمنا . وقيل : صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتغيير صفته إلى صفة أخرى ، حتى لا تقوم عليهم الحجة . وقرأ ابن محيصن : أولا تعلمون بالتاء ، قالوا : فيكون ذلك خطابا للمؤمنين ، وفيه تنبيه لهم على جهلهم بعالم السر والعلانية ، ويحتمل أن يكون خطابا لهم ، وفائدته التنبيه على سماع ما يأتي بعده ، ثم أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة ، إهمالا لهم ، فيكون ذلك من باب الالتفات ، ويكون حكمته في الحالتين ما ذكرناه . وقد تقدم لنا أن مثل ( أفلا تعقلون ) ، ( أولا يعلمون ) ، أن الفاء والواو فيهما للعطف ، وأن [ ص: 275 ] أصلهما أن يكونا أول الكلام ، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام ، فقدمت . وذكرنا طريقة الزمخشري في ذلك ، فأغنى عن إعادته . و ( أن الله يعلم ) : يحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفرد ، إذا قلنا : إن يعلمون متعد إلى واحد كعرف ، ويحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفعولين ، إذا قلنا : إن يعلمون متعد إلى اثنين ، كظننت ، وهذا على رأي سيبويه . وأما الأخفش ، فإنها تسد عنده مسد مفعول واحد ، ويجعل الثاني محذوفا ، وقد تقدم لنا ذكر هذا الخلاف ، والعائد على " ما " محذوف تقديره : يسرونه ويعلنونه . وظاهر هذا الاستفهام أنه تقرير لهم أنهم عالمون بذلك ، أي بأن الله يعلم السر والعلانية ، أي قد علموا ذلك ، فلا يناسبهم النفاق والتكذيب بما يعلمون أنه الحق . وقيل : ذلك تقريع لهم وحث على التفكر ، فيعلمون بالتفكر ذلك . وذلك أنهم لما اعترفوا بصحة التوراة ، وفيها ما يدل على نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزمهم الاعتراف بالربوبية ، ودل على أن المعصية ، مع علمهم بها ، أقبح .

وفي هذه الآية وما أشبهها دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغضي عن المنافقين ، مع أن الله أظهره على نفاقهم ، وذلك رجاء أن يؤمنوا ، فأغضى عنهم ، حتى قبل الله منهم من قبل ، وأهلك من أهلك . واختلف ، هل هذا الحكم باق ، أو نسخ ؟ فقال قوم : نسخ ؛ لأنه كان يفعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - تأليفا للقلوب . وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم ، فلا حاجة إلى التأليف . وقال قوم : هو باق إلى الآن ؛ لأن أهل الكفر أكثر من أهل الإيمان ، فيحتاجون إلى زيادة الأنصار وكثرة عددهم ، والأول هو الأشهر . وفي قوله : ( يعلم ما يسرون وما يعلنون ) ، حجة على من زعم أن الله لا يعلم الجزئيات ، بل يعلم الكليات .

( ومنهم أميون ) : ظاهر الكلام أنها نزلت في اليهود المذكورين في الآية التي قبل هذه ، قاله ابن عباس . وقيل : في المجوس ، قاله علي بن أبي طالب . وقيل : في اليهود والمنافقين . وقال عكرمة والضحاك : في نصارى العرب ، فإنهم كانوا لا يحسنون الكتابة . وقيل : في قوم من أهل الكتاب ، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها ، فصاروا أميين . وقيل : في قوم لم يؤمنوا بكتاب ولا برسول ، فكتبوا كتابهم وقالوا : هذا من عند الله ، فسموا : أميين ، لجحودهم الكتاب ، فصاروا بمنزلة من لا يحسن شيئا . والقول الأول هو الأظهر ؛ لأن سياق الكلام إنما هو مع اليهود ، فالضمير لهم .

ومناسبة ارتباط هذه الآية : أنه لما بين أمر الفرقة الضالة التي حرفت كتاب الله ، وهم قد عقلوه وعلموا بسوء مرتكبهم ، ثم بين أمر الفرقة الثانية ، المنافقين ، وأمر الثالثة ، المجادلة ، أخذ يبين أمر الفرقة الرابعة ، وهي : العامة التي طريقها التقليد ، وقبول ما يقال لهم . قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما : ومن هؤلاء اليهود المذكورون ، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم ، أي أنهم لا يطمع في إيمانهم . وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي عبلة : أميون ، بتخفيف الميم ، وقد تقدم أن الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ، أي لا يحسنون الكتب ، فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها .

و ( لا يعلمون الكتاب ) : جملة في موضع الصفة ، والكتاب هو التوراة .

( إلا أماني ) : استثناء منقطع ؛ لأن الأماني ليست من جنس الكتاب ولا مندرجة تحت مدلوله ، وهو أحد قسمي الاستثناء المنقطع ، وهو الذي يتوجه عليه العامل . ألا ترى أنه لو قيل لا يعلمون إلا أماني لكان مستقيما ؟ وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه وجهان ، أحدهما : النصب على الاستثناء ، وهي لغة أهل الحجاز ، والوجه الثاني : الإتباع على البدل بشرط التأخر ، وهي لغة تميم . فنصب " أماني " من الوجهين ، والمعنى : إلا ما هم عليه من أمانيهم ، وأمانيهم : أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، أو ما يمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة ، أو لا يعلمون إلا أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فنقلوها على التقليد ، قاله ابن عباس ومجاهد ، واختاره الفراء . وقيل : معناه إلا تلاوة ، أي لا يعلمون فقه [ ص: 276 ] الكتاب ، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم . قال أبو مسلم : حمله على تمني القلب أولى ، لقوله تعالى : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم ) . وقرأ الجمهور : أماني ، بالتشديد . وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن جماز عن نافع وهارون ، عن أبي عمرو : أماني بالتخفيف ، جمعه على أفاعل ، ولم يعتد بحرف المد الذي في المفرد . قال أبو حاتم : كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد ، فلك فيه التشديد والتخفيف مثل : أناني ، وأغاني ، وأماني ، ونحوه . قال الأخفش هذا ، كما يقال في جمع مفتاح مفاتيح ومفاتح ، وقال النحاس : الحذف في المعتل أكثر ، كما قال :


وهل رجع التسليم أو يكشف العمى ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع



( وإن هم إلا يظنون ) ، إن هنا : هي النافية ، بمعنى ما ، وهم : مرفوع بالابتداء ، وإلا يظنون : في موضع الخبر ، وهو من الاستثناء المفرغ . وإذا كانت إن نافية ، فدخلت على المبتدأ والخبر ، لم يعمل عمل ما الحجازية ، وقد أجاز ذلك بعضهم ، ومن أجاز شرط نفي الخبر وتأخيره ، والصحيح أنه لا يجوز ؛ لأنه لم يحفظ من ذلك إلا بيت نادر وهو :


إن هو مستوليا على أحد     إلا على أضعف المجانين

وقد نسب السهيلي وغيره إلى سيبويه جواز إعمالها إعمال ما ، وليس في كتابه نص على ذلك . ومعنى يظنون ، قال مجاهد : يكذبون ، وقال آخرون : يتحدثون ، وقال آخرون : يشكون ، وهو التردد بين أمرين ، لا يترجح أحدهما على الناظر فيهما ، والأولى حمله على موضوعه الأصلي ، وهو الترجيح لأحد الأمرين على الآخر ، إذ لا يمكن حمله على اليقين ، ولا يلزم من الترجيح عندهم أن يكون ترجيحا في نفس الأمر . وقال مقاتل : معناه ليسوا على يقين ، إن كذب الرؤساء ، أو صدقوا ، بايعوهم . انتهى كلامه . وأتى بالخبر فعلا مضارعا ، ولم يأت باسم الفاعل ؛ لأنه يدل على حدوث الظن وتجدده لهم شيئا فشيئا ، فليسوا ثابتين على ظن واحد ، بل يتجدد لهم ظنون دالة على اضطراب عقائدهم واختلاف أهوائهم . وفي هذه الآية دليل على أن المعارف كسبية ، وعلى بطلان التقليد ، وعلى أن المغتر بإضلال المضل مذموم ، وعلى أن الاكتفاء بالظن في الأصول غير جائز ، وعلى أن القول بغير دليل باطل ، وعلى أن ما تساوى وجوده وعدمه لا يجوز المصير إلى أحدهما إلا بدليل سمعي ، وتمسك بها أيضا منكرو القياس وخبر الواحد ، لأنهما لا يفيدان العلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية