الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وهو أنه لما ذكر أن من كان منشئا لكم بعد العدم ، ومفنيا لكم بعد الوجود ، وموجدا لكم ثانية ، إما في جنة ، وإما إلى نار ، كان جديرا أن يعبد ولا يجحد ، ويشكر ولا يكفر . ثم أخذ يذكرهم عظيم إحسانه وجزيل امتنانه ; من خلق جميع ما في الأرض لهم ، وعظيم قدرته وتصرفه في العالم العلوي ، [ ص: 133 ] وأن العالم العلوي والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء ، وأنه عليم بكل شيء . ولفظة ( هو ) من المضمرات ، وضع للمفرد المذكر الغائب ، وهو كلي في الوضع كسائر المضمرات ، جرى في النسبة المخصوصة حالة الاستعمال ، فما من مفرد مذكر غائب إلا ويصح أن يطلق عليه ( هو ) ولكن إذا أسند لهذا الاسم شيء تعين . ومشهور لغات العرب تخفيف الواو مفتوحة ، وشددتها همدان ، وسكنتها أسد وقيس ، وحذف الواو مختص بالشعر . ولهؤلاء المنسوبين إلى علم الحقائق وإلى التصوف كلام غريب بالنسبة لمعقولنا ، رأيت أن أذكره هنا ليقع الذكر فيه .

قالوا : أسماء الله تعالى على ثلاثة أقسام : مظهرات ، ومضمرات ، ومستترات ; فالمظهرات : أسماء ذات وأسماء صفات ، وهذه كلها مشتقة ، وأسماء الذات مشتقة وهي كثيرة ، وغير المشتق واحد وهو الله . وقد قيل : إنه مشتق ، والذي ينبغي اعتقاده أنه غير مشتق ، بل اسم مرتجل دال على الذات . وأما المضمرات فأربعة : ( أنا ) في مثل : ( الله لا إله إلا أنا ) ، و ( أنت ) في مثل : ( لا إله إلا أنت سبحانك ) ، و ( هو ) في مثل : ( هو الذي خلق لكم ) ، و ( نحن ) في مثل : ( نحن نقص عليك ) . قالوا : فإذا تقرر هذا فـ ( الله ) أعظم أسمائه المظهرات الدالة على الذات ، ولفظة ( هو ) من أعظم أسمائه المظهرات والمضمرات للدلالة على ذاته ; لأن أسماءه المشتقة كلها لفظها متضمن جواز الاشتراك لاجتماعهما في الوصف الخاص ، ولا يمنع أن يكون أحد الوصفين حقيقة والآخر مجازا من الاشتراك ، وهو اسم من أسماء الله تعالى ينبئ عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة من حيث هو هو . فلفظة ( هو ) توصلك إلى الحق ، وتقطعك عما سواه ، فإنك لا بد أن يشرك مع النظر في معرفة ما يدل عليه الاسم المشتق النظر في معرفة المعنى الذي يشتق منه ، وهذا الاسم لأجل دلالته على الذات ينقطع معه النظر إلى ما سواه . اختاره الجلة من المقربين مدارا لذكرهم ، ومنارا لكل أمرهم ; فقالوا : يا هو ; لأن لفظة ( هو ) إشارة بعين المشار إليه بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد ، والمقربون لا يخطر في عقولهم وأرواحهم موجود آخر سوى الذي دلت عليه إشارته ، وهو اسم مركب من حرفين وهما : الهاء والواو ، والهاء أصل ، والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية ، والجمع في هما وهم ، والأصل حرف واحد يدل على الواحد الفرد . انتهى ما نقل عن بعض من عاصرناه في ( هو ) بالنسبة إلى الله تعالى ، مقررا لما ذكروه ومعتقدا لما حبروه . ولهم في لفظة أنا وأنت وهو كلام غريب جدا بعيد عما تكلم عليها به أهل اللغة والعربية ، وحديث هؤلاء المنتمين إلى هذه العلوم لم يفتح لي فيه ببارقة ، ولا ألممت فيه إلى الآن بغادية ولا طارقة ، نسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا بأنوار الهداية ، وأن يجنبنا مسالك الغواية ، وأن يلهمنا إلى طريق الصواب ، وأن يرزقنا اتباع الأمرين النيرين : السنة والكتاب .

و ( لكم ) متعلق بـ ( خلق ) واللام فيه ، قيل : للسبب ، أي لأجلكم ولانتفاعكم ، وقدر بعضهم : لاعتباركم . وقيل : للتمليك والإباحة ، فيكون التمليك خاصا ، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به وتدعو الضرورة إليه . وقيل : للاختصاص ، وهو أعم من التمليك ، والأحسن حملها على السبب فيكون مفعولا من أجله ; لأنه بما في الأرض يحصل الانتفاع الديني والدنيوي ; فالديني : النظر فيه وفيما فيه من عجائب الصنع ولطائف الخلق الدالة على قدرة الصانع وحكمته ، ومن التذكير بالآخرة والجزاء ، وأما الدنيوي : فظاهر ، وهو ما فيه من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمناظر البهية وغير ذلك . وقد استدل بقوله : ( خلق لكم ) ، من ذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة ، فلكل أحد أن ينتفع بها ، وإذا احتمل أن يكون اللام لغير التمليك والإباحة ، لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه . وقد ذهب قوم إلى الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر ، فلا يقدم على شيء إلا بإذن . وذهب قوم إلى أن الوقف لما تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة ودليل القائلين بالحظر قالوا بالوقف .

وحكى أبو [ ص: 134 ] بكر بن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : لم يخل العقل قط من السمع ، فلا نازلة إلا وفيها سمع ، أو لها تعلق به أثر لها حال تستصحب ، وإذا جعلنا اللام للسبب ، فليس المعنى أن الله فعل شيئا لسبب ، لكنه لما فعل ما لو فعله غيره لفعله لسبب ، أطلق عليه لفظ السبب واندرج تحت قوله : ( ما في الأرض جميعا ) جميع ما كانت الأرض مستقرا له من الحيوان والنبات والمعدن والجبال ، وجميع ما كان بواسطة من الحرف والأمور المستنبطة . واستدل بعضهم بذلك على تحريم الطين ، قال : لأنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض .

وقد تقدم قبل هذا الامتنان بجعل الأرض لنا فراشا ، وهنا امتن بخلق ما فيها لنا ، وانتصب ( جميعا ) على الحال من المخلوق ، وهي حال مؤكدة ; لأن لفظة ( ما في الأرض ) عام ، ومعنى ( جميعا ) العموم . فهو مرادف من حيث المعنى للفظة ( كل ) ; كأنه قيل : ما في الأرض كله ، ولا تدل على الاجتماع في الزمان ، وهذا هو الفارق بين معا وجميعا . وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على ( مع ) ومن زعم أن المعني بقوله : ما في الأرض ، الأرض وما فيها ، فهو بعيد عن مدلول اللفظ ، لكنه تفسير معنى من هذا اللفظ ، ومن قوله تعالى : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا ) ، فانتظم من هذين : الأرض وما فيها ، خلق الله ذلك لنا . وقال الزمخشري : إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء ، كما تذكر السماء ، ويراد بها الجهات العلوية ، جاز ذلك ، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية .

وقال بعض المنسوبين للحقائق : خلق لكم ليعد نعمه عليكم ، فتقتضي الشكر من نفسك لتطلب المزيد منه . وقال أبو عثمان : وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاء في المعاد ، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك ; فإنه قد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وقبل التوحيد . وقال ابن عطاء : خلق لكم ليكون الكون كله لك ، وتكون لله فلا تشتغل بما لك عما أنت له . وقال بعض البغداديين : أنعم عليك بها ; فإن الخلق عبدة النعم لاستيلاء النعم عليهم ، فمن ظهر للحضرة أسقط عنه المنعم رؤية النعم . وقال الثوري : أعلى مقامات أهل الحقائق الانقطاع عن العلائق .

والعطف بثم يقتضي التراخي في الزمان ، ولا زمان إذ ذاك ، فقيل : أشار بثم إلى التفاوت الحاصل بين خلق السماء والأرض في القدر ، وقيل : لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركة فيها وتقدير الأقوات عطف بثم ، إذ بين خلق الأرض والاستواء تراخ ، يدل على ذلك : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ) ، الآية . .

( استوى ) أهل الحجاز على الفتح ، ونجد على الإمالة ، وقرئ في السبعة بهما ، ( وفي الاستواء هنا سبعة أقوال ) : أحدها : أقبل وعمد إلى خلقها وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر ، وهو استعارة من قولهم : استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء ، قال معناه الفراء ، واختاره الزمخشري ، وبين ما الذي استعير منه . الثاني : علا وارتفع من غير تكييف ولا تحديد ، قاله الربيع بن أنس ، والتقدير : علا أمره وسلطانه ، واختاره الطبري . الثالث : أن يكون ( إلى ) بمعنى ( على ) أي استوى على السماء ، أي : تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :


فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر



ومعنى هذا الاستيلاء كما قال الشاعر :


قد استوى بشر على العراق     من غير سيف ودم مهراق



الرابع : أن المعنى تحول أمره إلى السماء واستقر فيها ، والاستواء هو الاستقرار ، فيكون ذلك على حذف مضاف ، أي : ثم استوى أمره إلى السماء ، أي استقر ; لأن أوامره وقضاياه تنزل إلى الأرض من السماء . قاله الحسن البصري . والخامس : أن المعنى استوى بخلقه واختراعه إلى السماء . قاله ابن كيسان [ ص: 135 ] ويأول المعنى إلى القول الأول . السادس : أن المعنى : كمل صنعه فيها ، كما تقول : استوى الأمر ، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه . السابع : أن الضمير في ( استوى ) عائد على الدخان ، وهذا بعيد جدا يبعده قوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) ، واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور ، ولا يفسره سياق الكلام .

وهذه التأويلات كلها فرار عما تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى ، وأن يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث ، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش ، إن شاء الله تعالى . ومعنى التسوية : تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن وتكميله من قولهم : درهم سواء ، أي وازن كامل تام ، أو جعلهن سواء من قوله : ( إذ نسويكم برب العالمين ) أو تسوية سطوحها بالإملاس . والضمير في ( فسواهن ) عائد على السماء على أنها جمع سماوة ، أو على أنه اسم جنس فيصدق إطلاقه على الفرد والجمع ، ويكون مرادا به هنا الجمع . قال الزمخشري : والضمير في ( فسواهن ) ضمير مبهم . و ( سبع سماوات ) تفسيره كقولهم : ربه رجلا . انتهى كلامه . ومفهومه أن هذا الضمير يعود على ما بعده ، وهو مفسر به ، فهو عائد على غير متقدم الذكر . وهذا الذي يفسره ما بعده : منه ما يفسر بجملة ، وهو ضمير الشأن أو القصة ، وشرطها عند البصريين أن يصرح بجزأيها ، ومنه ما يفسر بمفرد ، أي غير جملة ، وهو الضمير المرفوع بنعم وبئس وما جرى مجراهما . والضمير المجرور برب ، والضمير المرفوع بأول المتنازعين على مذهب البصريين ، والضمير المجعول خبره مفسرا له ، والضمير الذي أبدل منه مفسره ، وفي إثبات هذا القسم الأخير خلاف ، وذلك نحو : ضربتهم قومك ، وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحدا من هذه الضمائر التي سردناها ، إلا أن تخيل فيه أن يكون ( سبع سماوات ) بدلا منه ومفسرا له ، وهو الذي يقتضيه تشبيه الزمخشري له بربه رجلا ، وأنه ضمير مبهم ليس عائدا على شيء قبله ، لكن هذا يضعف بكون هذا التقدير يجعله غير مرتبط بما قبله ارتباطا كليا ، إذ يكون الكلام قد تضمن أنه تعالى استوى على السماء ، وأنه سوى سبع سماوات عقيب استوائه إلى السماء ، فيكون قد أخبر بإخبارين : أحدهما استواؤه إلى السماء والآخر : تسويته سبع سماوات .

وظاهر الكلام أن الذي استوى إليه هو بعينه المستوى سبع سماوات . وقد أعرب بعضهم ( سبع سماوات ) بدلا من الضمير على أن الضمير عائد على ما قبله ، وهو إعراب صحيح ، نحو : أخوك مررت به زيد ، وأجازوا في ( سبع سماوات ) أن يكون منصوبا على المفعول به ، والتقدير : فسوى منهن سبع سماوات ، وهذا ليس بجيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ; أما من حيث اللفظ فإن ( سوى ) ليس من باب اختار ، فيجوز حذف حرف الجر منه في فصيح الكلام ، وأما من حيث المعنى ; فلأنه يدل على أن السماوات كثيرة ، فسوى منهن سبعا ، والأمر ليس كذلك ، إذ المعلوم أن السماوات سبع . وأجازوا أيضا أن يكون مفعولا ثانيا لسوى ، ويكون معنى سوى : صير ، وهذا ليس بجيد ; لأن تعدي سوى لواحد هو المعلوم في اللغة ، ( فسواك فعدلك ) ، ( قادرين على أن نسوي بنانه ) . وأما جعلها بمعنى صير ، فغير معروف في اللغة . وأجازوا أيضا النصب على الحال ، فتلخص في نصب سماوات أوجه البدل باعتبارين ، والمفعول به ، ومفعول ثان ، وحال ، والمختار البدل - باعتبار عود الضمير على ما قبله - والحال ، ويترجح البدل بعدم الاشتقاق .

وقد اختلف أهل العلم في أيهما خلق قبل ، فمنهم من قال : السماء خلقت قبل الأرض ، ومنهم من قال : الأرض خلقت قبل السماء ، وكل تعلق في الاستدلال بظواهر آيات يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى . والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدم على تسوية السماء سبعا لا غير ، والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء ، وخلقت السماء بعدها ، [ ص: 136 ] ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء ، وبهذا يحتمل الجمع بين الآيات . وقال بعضهم : وإنما خلق السماوات سبعا ; لأن السبعة والسبعين فيه دلالة على تضاعيف القوة والشدة ، كأنه ضوعف سبع مرات . ومن شأن العرب أن يبالغوا بالسبعة والسبعين من العدد ، لما في ذكرها من دليل المضاعفة . قال تعالى : ذرعها سبعون ذراعا ، إن تستغفر لهم سبعين مرة ، والسبعة تذكر في جلائل الأمور : الأيام سبعة ، والسماوات سبع ، والأرضين سبع ، والنجوم التي هي أعلام يستدل بها سبعة : زحل ، والمشترى ، وعطارد ، والمريخ ، والزهرة ، والشمس ، والقمر ، والبحار سبعة ، وأبواب جهنم .

وتسكين الهاء في هو وهي بعد الواو والفاء واللام وثم جائز ، وقل بعد كاف الجر وهمزة الاستفهام ، وندر بعد لكن ، في قراءة أبي حمدون : لكن هو الله ربي ، وهو تشبيه بتسكين سبع وكرش ، شبه الكلمتان بالكلمة .

وهو بكل شيء عليم : وقرأ بتسكين ( وهو ) أبو عمرو والكسائي وقالون ، وقرأ الباقون بضم الهاء على الأصل . ووقف يعقوب على ( وهو ) بالهاء نحو : وهوه .

( بكل ) متعلق بقوله : عليم .

وكان القياس التعدي باللام حالة التقديم ، أو بنفسه . وأما حالة التأخير فبنفسه ; لأنه من فعل متعد ، وهو أحد الأمثلة الخمسة التي للمبالغة ، وقد حدث فيها بسبب المبالغة من الأحكام ما ليس في فعلها ولا في اسم الفاعل ، وذلك أن هذا المبني للمبالغة المتعدي إما أن يكون فعله متعديا بنفسه ، أو بحرف جر ، فإن كان متعديا بحرف جر تعدى المثال بحرف الجر نحو : زيد صبور على الأذى زهيد في الدنيا ; لأن ( صبر ) يتعدى بعلى ، وزهد يتعدى بفي . وإن كان متعديا بنفسه فإما أن يكون ما يفهم علما وجهلا ، أو لا . إن كان مما يفهم علما أو جهلا تعدى المثال بالباء نحو : زيد عليم بكذا ، وجهول بكذا ، وخبير بذلك ، وإن كان لا يفهم علما ولا جهلا فيتعدى باللام نحو قوله تعالى : ( فعال لما يريد ) وفي تعديها لما بعدها بغير الحرف ونصبها له خلاف مذكور في النحو ، وإنما خالفت هذه الأمثلة التي للمبالغة أفعالها المتعدية بنفسها ; لأنها بما فيها من المبالغة أشبهت أفعل التفضيل ، وأفعل التفضيل حكمه هكذا . قال تعالى : ربكم أعلم بكم ، وقال الشاعر :


أعطى لفارهة حلو مراتعها



وقال :

أكر وأحمى للحقيقة منهم



فإن جاء بعده ما ظاهره أنه منصوب به نحو قوله تعالى : ( إن ربك هو أعلم من يضل ) ، وقول الشاعر :


وأضرب منا بالسيوف القوانسا



أول بأنه معمول لفعل محذوف يدل عليه أفعل التفضيل .

( شيء ) قد تقدم اختلاف الناس في مدلول شيء . فمن أطلقه على الموجود والمعدوم كان تعلق العلم بهما من هذه الآية ظاهرا ، ومن خصه بالموجود فقط كان تعلق علمه تعالى بالمعدوم مستفادا من دليل آخر غير هذه الآية ( عليم ) قد ذكرنا أنه من أمثلة المبالغة ، وقد وصف تعالى نفسه بعالم وعليم وعلام ، وهذان للمبالغة . وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في علامة ، ولا يجوز وصفه به تعالى . والمبالغة بأحد أمرين : إما بالنسبة إلى تكرير وقوع الوصف سواء اتحد متعلقه أم تكثر ، وإما بالنسبة إلى تكثير المتعلق لا تكثير الوصف . ومن هذا الثاني المبالغة في صفات الله تعالى ; لأن علمه تعالى واحد لا تكثير فيه ، فلما تعلق علمه تعالى بالجميع كليه وجزئيه ، دقيقه وجليله ، معدومه وموجوده ، وصف نفسه تعالى بالصفة التي دلت على المبالغة ، وناسب مقطع هذه الآية بالوصف بمبالغة العلم ; لأنه تقدم ذكر خلق الأرض والسماء والتصرف في العالم العلوي والسفلي وغير ذلك من الإماتة والإحياء ، وكل ذلك يدل على صدور هذه الأشياء عن العلم الكامل التام المحيط بجميع الأشياء . وقال بعض الناس : العليم من كان علمه من ذاته ، والعالم من كان علمه متعديا من غيره ، وهذا ليس بجيد لأن الله تعالى قد وصف نفسه بالعالم ، ولم يكن علمه بتعلم .

وفي تعميم قوله تعالى : بكل شيء عليم [ ص: 137 ] رد على من زعم أن علم الله تعالى متعلق بالكليات لا بالجزئيات ، تعالى الله عن ذلك . وقالوا : علم الله تعالى يتميز على علم عباده بكونه واحدا يعلم به جميع المعلومات ، وبأنه لا يتغير بتغيرها ، وبأنه غير مستفاد من حاسة ولا فكر ، وبأنه ضروري لثبوت امتناع زواله ، وبأنه تعالى لا يشغله علم عن علم ، وبأن معلوماته تعالى غير متناهية . وفي قولهم : لا يشغله علم عن علم ، يريدون : معلوم عن معلوم ; لأنه قد تقدم أن علم الله واحد ولا يشغله تعلق علم شيء عن تعلقه بشيء آخر .

وتضمن قوله تعالى : إن الله لا يستحيي إلى آخر قوله : وهو بكل شيء عليم أن ما ضرب به المثل في كتابه : من مستوقد النار ، والصيب ، والذباب ، والعنكبوت ، وما يجري مجرى ذلك ، فيه عجائب من الحكم الخفية ، والجلية ، وبدائع الفصاحة العربية ، وموافقة المثل لما ضرب به ، وأنه لا يحسن في مثله الأمثلة ، وأنه تعالى لا يترك ذلك لما فيه من الحكم ، ومدح من عرف أن ذلك حق ، وذم من أنكره وعابه ، وأن في ضربه هدى لمن آمن ، وضلالا لمن صد عنه ، وذم من نقض عهد الله وقطع ما يجب أن يوصل ، وأفسد في الأرض ، وإعلامه بأن ذلك سبب خسرانه ، والإعلام أن ناقضي عهده هو تعالى قادر على إحيائهم بعد الموت ، كما كان قادرا على إيجادهم بعد العدم ، وأنه جامعهم وباعثهم ومجازيهم بأعمالهم ، وفي ذلك أشد التخويف والتهديد . ثم بعد التخويف ذكرهم تعالى بنعمه التي أنعمها عليهم : من خلق الأرض المقلة ، والسماء المظلة ، والمخلوقات المتعددة التي ينتفعون بها ويعتبرون بها ، ليجمع بذلك بين الترهيب والترغيب ، وهذه هي الموعظة التي يتعظ بها ذو العقل السليم والذهن المستقيم . ثم ختم ذلك بالفضل الأكبر من إعلامهم بإحاطة علمه بجميع الأشياء من الابتداء إلى الانتهاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية