الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- عوامل سقوط الحضارات في الرؤية الإسلامية:

إن أسباب سقوط الحضارات في الرؤية الإسلامية - كما أسلفنا - ترجع إلى الإنسان وإرادته، وهذا يجيئ امتدادا لنظرية استخلاف الإنسان في الأرض لعمارتها وتحقيق العبودية لله عليها، وقد سخر الله كل ما في الكون للإنسان ليعينه على أداء دوره، ولم يكن الله مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم: ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الأنفال:53) أي أن الله "لا يزيل ما بقوم من العافية والنعمة والرخاء والهناء ويبدلها بالآلام والأمراض والنوازل والفتن والأحداث وغيرها من ضروب العقاب الرباني حتى يزيلوا هم ويغيروا فيجحدون النعمة ويعلنون الكفر والمعاصي ويتمردون على سنن الله في إسعاد البشر ويتظاهرون بالفحش والمنكر والفساد فتكون النتيجة أن تحل بهم قوارع الدهر وينـزل بساحتهم عذاب من الله" [1] .

وكما أن الحضارة تؤسس على الأخلاق المنبثقة عن الإيمان بالله فإن سقوطها يؤسس على سوء الخلق، فكلما التزمت جماعة ما بمزيد من القيم الأخلاقية وكلما سعت إلى صقل هذه القيم وتأصيلها في أعماق البنية الاجتماعية؛ كلما تمكنت من حماية وحدتها وتأخير عمرها الحضاري، وإبعاد شبح التدهور والسقوط بالتالي. وكلما بدأت جماعة بالتخلي عن هذه [ ص: 98 ] الالتزامات وإطراحها جانبا وعدم السعي لبلورتها وتعميقها في الممارسة الجماعية كلما عرضت وحدتها للتفتيت وآذنت معطياتها ونشاطاتها الحضارية الشاملة بمصير سيئ قريب.

ومعروف لدى فلاسفة التاريخ والحضارة أن الحضارة التي تتمخض عن عقيدة ما، يرتبط مصيرها إلى حد كبير بدوافع نشوئها، فإذا ضعف الدافع العقدي أو عانت المعطيات الحضارية من تقطعه وغيابه بهذه النسبة أو تلك فقدت قدرتها على النمو والاستمرار، وتفككت الأواصر التي تشد أجزاءها وتحركها صوب هدفها المرسوم [2] .

وتسهم عوامل ومؤثرات شتى، عقدية وسياسية وإدارية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية في سقوط الحضارة. وليس بالضرورة أن يكون السقوط دائما، وهو زوال الأمم من الوجود وفناء أفرادها كما هو الحال مع الأقوام البائدة، وإنما هو الانهيار الداخلي للمجتمعات وذهاب قوة الأمم وعزتها وهوانها على الأمم الأخرى، أي أن تتنازل الجماعة عن مركزها القيادي وتتراجع إلى الخطوط الخلفية لكي تمارس التبعية للجماعات الأقوى بعد أن كانت متبوعة مطاعة

[3] ، والقرآن الكريم يسمي هذه الظاهرة بالاستبدال [ ص: 99 ] وهو من سنن الله في التاريخ: ( إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) (الأنعام:133)، ( ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا .. ) (هود:57)، ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) (محمد:38)، ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) (المائدة:54)، فحيثما دب الفساد وعم الخراب جاء السقوط والاستبدال بالأصلح والأنفع لتتواصل مسيرة البشرية كما اقتضت الحكمة الإلهية.

وقد سبق أن ذكرنا أن مذاهب التفسير الوضعي للتاريخ أجمعت على حتمية سقوط الحضارات لعوامل أسلفنا ذكرها، والتفسير الإسلامي يقرر حتمية سقوط الحضـارات غير أنه يقرر في ذات الوقت إمـكانية أية أمة أو جماعة أن تعود باستمرار لكي تنشئ دولة أو تجربة جديدة أو تتولى زمام القيادة الحضارية بمجرد أن تستكمل الشروط اللازمة لذلك وأولها عملية التغيير الداخلي التي أكد القرآن حدها الإيجابي بقوله تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ... ) (الرعد:11)، وهكذا يعود أمر السقوط والنهوض للموقف الإنساني.

إن من الأسباب الأساسية للسقوط الحضاري في الرؤية الإسلامية: الشرك والنفاق والترف والفسوق والطغيان والاستغلال والمكر والاغترار [ ص: 100 ] بالنفس وعدم الاستقرار والأنانية وترك العمل واتباع الباطل، فالشرك والنفاق ينزعان اليقين من القلب حتى لو بقي التسليم بالنظريات والأصول تسليما ظاهريا. وترك العمل أو سوء العمل ينزع من أفراد الأمة الصلاحيات التي يحتاج إليها لتنفيذ الأصول والنظريات، وينفي عنهم الاستعداد للتضحيات اللازمة والطاعة الواجبة، ويترتب على ما مضى ميلهم إلى اتباع الباطل والاغترار بأنفسهم ومن ثم تنعدم فيهم صفة الاستقلال وضبط النفس بل يسيطر عليهم الأنانية وعدم الثبات [4] .

ويمكن إجمال أسباب السقوط في الرؤية الإسلامية في النقاط التالية:

1- الكفر والشرك:

إن الكفر أو الشرك يعني انفصال الحضارة من الدين وتحررها من سلطانه وهذا يفضي بها ولا بد إلى انحـلال الأخـلاق وانحطاطها، عاجلا أو آجلا . وهذا ما يبدو جليا في حالة الشقاء التي يتعرض لها المجتمع الكافر أو المشرك ( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) (البقرة:38-39)، ( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) (طه:123-124)، ( فقلت [ ص: 101 ] استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) (نوح:10-12)، ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النحل:97)، ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) (النحل:112)، ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) (الكهف:103-105)، ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ) (النور:39).

إن تجربة الحضارة المعاصرة وصيحات مفكري تلك الحضارة ترينا الآثار التي ترتبت على الكفر بالله أو الإشراك به - وهي آثار هدامة - ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ) (الأنبياء:11)، ومـن ثـم لا يمكن القول: إن الجنوح المادي الذي طالما تميزت به قوى الـكفر منذ فـجر التـاريخ وحتى وقتنا الراهن كضرورة من ضـرورات التصاقها بالأرض ورفضها أي إيمان بالغيب أو المثل العليا، إنما يمثل تعبـيرا عن السـعادة بمفهومها الشامل، على العكس فإن هذا [ ص: 102 ] الجنوح يمثل نقصـا كبيرا وانحرافا خطـيرا في تجربة يملأ خلاياها وشرايينها بالتعاسة والشقاء [5] .

ومهما يكن من أمر فإن الحضارة -أية حضارة- محكومة بالسنن الإلهية، وهذه السنن في المجال الحضاري -كما أسلفنا- على نوعين؛ سنن جزئية تتعلق بعالم الشهادة وهي سنن تعطي كل من يوظفها على قدر سعيه ولا تفرق بين مؤمن وكافر، وسنن كلية حاكمة على هذه السنن الجزئية، وهي سنة الإيمان بالله وتوحيـده، وهي التي تحـدد مصير الحضارات، نموا أو سقوطا، وتعتبر جميع عوامل سقوط الحضارات تبعا لهذا العامل أي غياب الإيمان بالله وتوحيده.

2- الظلم:

يعتبر الظلم من أكبر عوامل سقوط الحضارات، وله مفهوم شامل عريض يؤدي إلى فقدان التوازن في كافة مجالات الحياة وعلاقات الإنسان مع نفسه ومع الله ومع غيره. وعن هذا تنبثق ظواهر نفسية واجتماعية واقتصادية مرضية وتصورات فاسدة عن الوجود كله، فيعم الفساد الحياة الإنسانية بأسرها [6] : ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) (هود:117)، [ ص: 103 ] ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) (هود:102).

والقـرآن الكريم ينعي على جماعـة المؤمنين قبول الظلم في أي شكل كان: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) (النساء:97-98)، ( وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ) (إبراهيـم:45)، يقـول ابن تيمية: "إن الله يقيم الدولـة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة... الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام" [7] .

3- الترف:

وقف ابن خلدون طويلا في مقدمته عند مسألة الترف، واعتبر الترف حتمية ترتبط بعملية التحضر بانتقال الجماعات البشرية من البداوة والتنقل في الصحراء إلى الغنى والحضارة والاستقرار، وعالج المسألة من جانبيها الأخلاقي والاقتصادي فبين في الأولى ما يؤول إليه الترف من تفكك في الأخلاق وركود في الهمة ينعكس بالضرورة على مسيرة الحضارة ويأذن بتوقف تدفقها الإبداعي وبالتالي انحلالها ودمارها . وبين في الثانية ما يعنيه طغيان الترف في مجتمع ما من اختلال في التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، [ ص: 104 ] ومن تضخيم للنـزعة الاستهلاكية على حساب التنمية والعطاء الأمر الذي ينعكس هو الآخر سلبا على التطور الحضاري العام [8] .

إن الترف ممارسـة مـدمرة، سواء للجماعة كلها التي تسـكت عليها وتغض عنها الطرف أو تغلو في انـهزاميتها فتتملق وتتقرب وتداهن، أو للمترفين أنفسهم، الذين يعمي الثراء الفاحش وما ينبثق عنه من ممارسة مرضية بصائرهم ويطمس على أرواحهم، ويسحق كل إحساس أخلاقي أصيل في نفوسهـم، ويحجب عنهم كل رؤية حقيقية لدور الإنسان في الدنيا وموقعه في الكون، وطبيعة العلاقات المتبادلة بين عالمي الغيب والشـهادة والمادة والروح [9] . والقرآن الكريم يؤكد ذلك: ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين * وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) (القصص:58-59)، ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) (الإسراء:16)، ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون * وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ) (سبأ:34-35). [ ص: 105 ]

4- التحلل الخلقي والسلوكي:

من أسباب سقوط الحضارات ظهور المعاصي وانتشار الفواحش في المجتمعات مع سكوت الناس عن تغييرها، ذلك أن المعصية إذا صدرت من فرد وأتى بها خفية كان ضررها قاصرا عليه لا يتعداه إلى غيره، أما إذا أصبح المجرمون المنحرفون يعلنون إجرامهم ويتظاهرون بفسوقهم ولم يوجد من يأخذ على أيديهم ويردهم عن عصيانهم دب حينئذ ضرر الفاحشة إلى العامة والخاصة ولم يبق وبالها مقتصرا على مرتكبيها [10] . وقدم القرآن الكريم نموذجا لذلك بقوم لوط وامرأة العزيز وصويحباتها، كما جاءت سورة النور مبينة لآثار الزنا، وناقشت السنة النبوية هذه الفواحش وآثارها في أحاديث الفتن والملاحم.

هذه العوامل تنبثق كلها في نهاية الأمر من الابتعاد أو الانحراف عن الإيمان بالله والتوحيد. ومما لا شك فيه أن القيم الأخلاقية المعيارية هي وليدة عقيدة الإيمان بالله، وحيثما غاب الإيمان أو انحرف عن مسار التوحيد فإن النتيجة هي ظهور الفساد في البر والبحر، الذي يؤذن بالتدهور والسقوط. غير أن عوامل الإمكان الحضاري متوافرة للأمة للنهوض متى ما رجعت إلى عقيدتها، "ومن الأمور المنطقية في قضايا الحضارات أن الحضارة لا تتجدد ولا تقوم مرة أخرى إلا في إطار منطلقها الأول وخصائصها الذاتية واستحضار ماضيها وربطه بحاضرها؛ لأن الانسلاخ عن منجزات التاريخ أمر مستحيل" [11] . [ ص: 106 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية