الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- رؤية العالم في النموذج الإسلامي:

حين الحديث عن النموذج المعرفي الإسلامي ورؤيته للعالم فإننا نجد أن نظرية المعرفة الإسلامية تختلف جوهريا عن نظرية المعرفة الغربية، ولها ارتباطات متداخلة تكون شبكة كلية ونظرة شاملة للوجود أو رؤية للعالم "World View" وهي تابعة لنظرية الوجود، ويمثل توحيد الإله محورا لهذه النظرية، والتفكير الإسلامي عموما يعتمد على الربط بين الوجود والمعرفة من خلال النبوة، التي هي الطريق الوحيد للمعرفة الغيبية. ولذا فإن ما هو موجود لا يتعلق وجوده بمعرفة الإنسان له أو عدمها، وذلك خلافا للنظرية الغربية، ومن هنا كانت تبعية نظرية المعرفة في الإسلام لنظرية الوجود [1] .

والوجود في التصور الإسلامي قائم على عالمين:

- عالم الغيب، وهذا مصدره الوحي، ومجال العقل فيه محدود .

- عالم الشهادة، وهذا يمكن فهمه عبر العقل، غير أن العقل لا بد له من الاستعانة بتوجيهات الوحي، وإلا كانت النتيجة هي العلمانية، ذلك أن الكون (عالم الشهادة) في التصور الإسلامي مخلوق لله، وخلق من أجل غاية، [ ص: 39 ] وقد سخره الله لهذا الإنسان المخلوق المكرم ليعينه على تحقيق العبودية لله، وواجب الإنسان عمارة هذا الكون وعبادة الله. فإذا تعامل العقل مع الكون بعيدا عن هذه الغائية فإن النتيجة حتما هي الإفساد بدلا عن الإصلاح والإعمار.. "ومما لاشك فيه أن انغماس الفلسفة في دراسة جانب مع إطراح الجانب الآخر من شأنه توليد معرفة قاصرة، أما القرآن فإنه يربط هذين العالمين بحيث لا ينفكان عن بعضهما، وعلى ذلك فإن الحقيقة العلمية في النموذج الإسلامي "ليست حكرا على التجربة، و الوجود الواقعي ليس حكرا على الوجود المادي أصلا" [2] .

إن من أهم مميزات نظرية المعرفة الإسلامية هي "وحدة الحقيقة وانسجام المعرفة، فثمة علاقة اعتمادية بين الوجود والمعرفة، إذ إن نظرية المعرفة الإسلامية تابعة لنظرية الوجود، ويمثل توحيد الإله محورا لهذه النظرية، كما ذكرنا، فنظرية المعرفة الإسلامية تنطلق - إذن- من مبدأ التوحيد، وبهذا فإن نظرية المعرفة محددة وجوديا، بحيث لا يمكن الخلط بين المعرفة الإنسانية والمعرفة الإلهية، وذلك لوجود اختلافات جوهرية بين المعرفتين، فالمعرفة الحقيقية هي معرفة الله جل جلاله، وهذا يمنع حدوث صياغة عامة للمعرفة الإلهية والمعرفة الإنسانية، الأمر الذي قد يكون المرحلة الأولى لعلمنة المعرفة، فالتفكير الإسلامي يعتمد على هذه الرابطة المحدودة بين الوجودية والمعرفية [ ص: 40 ] من خـلال النبوة، وإن ما تؤمن به القوانيـن الدينية في هذه المسألة هو إرادة الله، والطريق الوحيد لمعرفة إرادة الله هو النبوة" [3] .

وثاني مميزات نظرية المعرفة الإسلامية هو "الاختلاف في المستويات المعرفية بين عالم التنزيه وعالم الخلق، فالله تعالى في النظرية الإسلامية هو أصل العلم والمعرفة، وهو وحده العالم المطلق العلم، بينما علم الإنسان محدود ونسبي؛ وهذا الاختلاف في المستويات المعرفية يسنده الإيمان بالغيب ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) (الأنعام:59)، وهذا يمنع ظهور قاعدة علمانية محورها الإنسان" [4] .

وثالث المميزات: "تجانس المصادر المعرفية لإنجاز وحدة الحقيقة، فالوحي مصدر للحقيقة المطلقة، والعقل وسيلة لتفسير الوحي. وكامتداد للوحدة الوجودية فإن احتمال التناقض الكامل بين الوحي والعقل الخالص قد أنكرتها المدارس الإسلامية التي تؤكد على أن وحدة الحقيقة تنبع من وحدة الألوهية المطلقة" [5] ، فالعلاقة على هذا تكاملية لا تنافسية بين الوحي والعقل الخالص.

هذه المميزات الثلاث لها ارتباطات متداخلة تكون شبكة كلية ونظرة شاملة للوجود أو رؤية للعالم "World View". [ ص: 41 ]

إن رؤية النموذج المعرفي الإسلامي للعالم تتلخص في:

أولا: التصور الإسلامي يعكس تمايزا بين عالم التنزيه (الألوهية) وعالم الخلق (الكون وموجوداته)، وهـذا ما لم تنتبه له الفلسفات الغربية، حيث لا يوجد هذا التمايز، ومن ثم فقد حدث الخلل الذي أدى لأزمة الحضارة الغربية. ووجود هذا التمايز وفهم المسلمين الأوائل له هو الذي أدى إلى سيادة الحضارة الإسلامية لقرون طويلة على العالم، شرقيه وغربيه، بل ساهم في بروز عصر النهضة الأوربية من خلال نزعتها التجريبية، وهي نزعة كرسها مفهوم عمارة الكون.

ثانيا: حقيقة التوحيد في بنيتها الشمولية، ممثلة لجوهر العقيدة "هي التي رسمت المسار الذي يجري عليه البناء الحضاري كله. وقد أجاب القرآن الكريم في تقريره لأصول الإيمان على التساؤلات الكلية حول المبدأ والمصير، والعلاقة بين الخالق والمخلوق، وهي الأسئلة التي خاضت فيها الفلسفة دون أن تصل إلى النتائج المطلوبة؛ ذلك لأن الفلسفة قد استندت إلى العقل في بحوثها الميتافيزيقية دون وضع اعتبار للتفرقة بين عالمي الغيب والشهادة.. فالعقل في التصور القرآني قاصر عن الوصول إلى نتائج تزول معها الشكوك في البحوث الماورائية، فهو "ليس عقلا ذا مدى وجودي ومعرفي"

[6] . ويقدم النموذج التوحيدي رؤية شاملة، في إجابته عن تلك التساؤلات الكلية. [ ص: 42 ]

ومهما يكن من أمر فإن رؤية العالم التي غايتها الإجابة عن التساؤلات الفلسفية النهائية المرتبطة بالإله والإنسان والكون وغايه الوجود، والتفاعلات بين هذه المكونات فإن النموذج الإسلامي يقدم تفسيرا لهذه العلاقة، حيث يرى أن العلاقة بين الإله الخالق والإنسان المخلوق عـلاقة عبودية، والعلاقة بين الإنسان والكون علاقة تسخير، وعلاقة الإنسان بالإنسان علاقة عدل وإحسان، وعلاقة الإنسان بالحياة علاقة ابتلاء، وعلاقة الإنسان بالآخرة علاقة مسؤولية وجزاء [7] .

ومن شأن هذا النموذج الذي يعترف بالوجود الإلهي وعالم الغيب أن يجعل من الفعل الحضاري قاصدا بحيث تكون غايته عمارة الأرض وإصلاحها تحقيقا لغايات الاستخلاف. بينما عجز النموذج الغربي عن تقديم إجابة لهذه التساؤلات النهائية، وربط معرفته بعالم الشهادة، وألغى عالم الغيب؛ لإبعاده الوحي من مصادره المعرفية.

تلك هي "رؤية العالـم" كما بلورتها النظريات المعرفية والتي قام عليها البناء الحضاري كله، بدءا من المفاهيم وبناء النظريات وانتهاء بالسيرورة الحضارية. [ ص: 43 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية