الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
1- مفهوم الحضارة في الرؤية الغربية:

هنـاك استخـدامان في الرؤية الغربية للفظـة (حضارة)، فقد عبر عنها الفرنسيـون بـ"Culture" بينما عبر عنها آخرون بمصطلح "Civilization"؛ لذلك فمن المفيد تقديم مختصر لمعاني الـ "Culture" والـ"Civilization" حـتى تتضـح الرؤيـة، ومن ثـم يتم توضيح مفهوم الحضارة. [ ص: 45 ]

أ- مفهوم الـ"Culture" في الفكر الغربي:

إن الـ "Culture" مشتقة من اللفظ اللاتيني "Cultura" بمعنى حرث ونمى، وقد "كانت دلالة الأصل اللاتيني في العصور القديمة والوسيطة مقصورة على تنمية الأرض ومحصولاتها" [1] ، غير أن "هناك من استعملها بالمعنى المجازي داعيا الفلسفة بالـ "Mentis Culture"، أي زراعة العقل وتنميته"





[2] . وفي أوائل العصور الحديثة بدأت تستعمل في الإنجليزية والفرنسيـة بمدلوليها المادي والعقـلي مع إضافة الشيء المقصود تنميته. فلما كان القرنان الثامن عشر والتاسع عشر "أخذ الكتاب الفرنسيون كفولتير وأقرانه يطلقون هذه اللفظة إجمالا دون إضافة شيء معين، وغدت "Culture" بهذا المعنى المطلق تدل على تنمية العقل والذوق ثم انتقلت إلى حصيلة هذه العملية، أي المكاسب العقلية والأدبية والذوقية، على أن إطلاق هذه اللفظة على عملية إنماء الأشياء المادية لم ينقطع كل الانقطاع إذ أنه يشيع الآن بنمو العلوم الطبية والصناعية" [3] . [ ص: 46 ]

ويعرف علماء الأنثروبولوجيا الـ"Culture" بأنها "الوراثة المجتمعية، أي المعتقدات والعادات والمهارات التي لدى أعضاء المجتمع، وهي نتائج تاريخ محدد ومتفرد، أي أنها طريقة الحياة المميزة لمجموعة من الناس، أو هي التصميم الكامل لمعيشتهم" [4] . ومن هؤلاء العلماء "تيلور" الذي يذهب إلى أن "(ثقافة) أو (حضارة) موضوعة في معناها الأثنولوجي الأكثر اتساعا هي ذلك الكل المركب، الذي يشتمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع" [5] .

ويرى "رالف لنتون" أن "مصطلح ثقافة Culture" يدل على النمط المميز للحياة التي يعيشها المجتمع، أو أنها شكل متكامل من السلوك المكتسب ونتائجه، أي مجموعة الأفكار والعادات، التي يتعلمونها ويشتركون فيها وينقلونها من جيل إلى جيل آخر، بما فيها العنصر المادي" [6] .

ويذهـب "كلايد كلوكهـون" إلى أنـها "مجموعة طـرائق الحياة لدى شعب معـين، أي الميراث الاجتماعي الذي يحصل عليه الفرد من [ ص: 47 ] مجموعتـه التي يعيش فيها، أو هي الجزء الذي خلقه الإنسان في محيطه أو في المواد والأدوات" [7] .

إن من العسير الإحاطة بمفهوم الـ "Culture" الأوربي، فلقد أحصى "كروبير" و"كلوكهون" سنة 1952م ما يزيد عن "164" تعريفا للثقافة، ابتداء من كونـها سلوكا متعلما وحتى كونها أفكارا في العقل أو تشييدا منطقيا أو دينا بديلا، من حيث دورهـا في تحسين الحياة، أو طوباوية تعد بتحقيق الذات وإقامة التفاهم بين الجماعات [8] .

وقد أطلق "أزوالد شبنجلر" لفظة "Culture" على الحضارة بمعنى الوحدة الأساسية أو الحدث الأولي في الاجتماع والتاريخ. وأطلق الـ: "Great Cultures or High Cultures" على الحضارات الكبرى كالحضـارة اليونانية والعربية والأوروبية الحـديثة، ولكنه استعملها أيضا كما استعمل قرينتها "Civilization" للدلالة على دورين مختلفين من الأدوار التي تمر بها كل حضارة، أما الأول "Culture" فهو دور الفتوة والازدهار والإنتاج الروحي، وأما الثاني فهو "Civilization" دور الهرم والركود والإنتـاج المادي، وهذا الدور الذي يسبق انحلال الحضارة [ ص: 48 ] وزوالها [9] ، ويتسـق هذا مع فهـم الفرنسيين حيث عمدوا إلى استخدام "Culture" باعتبارها حضارة.

ويرى "تيري إيجلتون" في تتبعه لتحولات العلاقة بين الثقافة والحضارة في رؤية الفرنسيين والألمان أن "الحضارة فكرة فرنسية إلى حد بعيد، حيث كانت تشير في آن معا إلى كل من التهذيب الاجتماعي في سيرورته التدريجية والغاية الطوباوية التي تمتد نحوها هذه السيرورة، وفي حين كانت الحضارة الفرنسية تشمل بصورة نمطية على الحياة السياسية والاقتصادية والتقنية فإن الثقافة الألمانية "Culture" كانت ذات مرجعية دينية وفكرية فنية، كما كانت تشير إلى التهذيب الفكري لجماعة من الجماعات أو فرد من الأفراد وليس للمجتمـع ككل، وفي حـين أن الحضـارة تقلل من أهميـة الفـوارق القومية فإن الثقـافة كانت تسلط عليها الضوء، والحال أن التـوتر بين الثقـافة والحضـارة قد كان أمرا وثيـق الصلة بالتنـافس بين فرنسا وألمانيا" [10] .

وهذه المعاني لمفهوم "Culture" الأوروبي جرى تسويقها في العالم، لتطور وسائل الاتصال-فيما يعرف بعملية الانتشار الثقافي والتثاقف [ ص: 49 ] والمثاقفة- "Acculturation"





[11] . وهذا الاتصال "يترتب عليه حدوث تغيـيرات في الأنماط الثقافية الأصيلة في إحدى الجماعتين. "وفي الغالب تكون الثقافة الأوربيـة هـي المفروضـة باعتبارها المركز، وغيرها الأطراف والهامش" [12] .

هـذا هـو مفهـوم حضـارة أو ثقافـة من خلال لفظ "Culture" الأوروبى.

ب- مفهوم الـ"Civilization" في الفكر الغربي:

يعود أصـل الـ "Civilization" إلى الجذر اللاتيني "Civitas" بمعنى مـدينة؛ و"Civis" بمعنى ساكن المدينة؛ أو "Civitis" بمعنى مدني أو ما يتعلق بساكن المدينة؛ أو "Citizen" وهو ما يعرف به المواطن [ ص: 50 ] الروماني المتعالي على البربري" [13] . ثم "أخذت تستعمل مجازا وعنت في بادئ الأمر عملية اكتساب الصفات المحمودة وبخاصة الألطاف الفردية والاجتماعية. وكانت ترد في الأغلب بصيغة الفعل "Civilize" لا بصيغة المصدر دلالة على العملية ذاتها لا على النتيجة، الحاصلة منها. ثم تطورت لتعبر عن هذه النتيجة، أي عن حالة الرقي والتقدم في الأفراد وفي المجتمعات. وتستعمـل اليوم في اللغـات الأوربيـة بمعنى الحضارة بصـورة مطلقة، أو الوحدات الحضارية التي ظهرت على مسرح التاريخ" [14] .

لقد عرف "وول ديورانت" الـ "Civilization" بأنها "نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، وتتألف الـ"Civilization" من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق؛ لأنه إذا أمن الإنسان من الخوف تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه لفهم الحياة وازدهارها" [15] . [ ص: 51 ]

فإذا كان هذا المصطـلح قد ارتبط بالمدينـة والتمـدن فإن ذلك يعود إلى أن الأوربيين عمدوا، لأسباب استعمارية، أن "يجعلوا غير الأوربيين ينظرون للحضارة كأنها المدنية، فالتحضر معناه التحضر في الاستهلاك، فالمتحضر هو الإنسان الذي أصبح ذوقه يتطلب أصنافا حضرية لسد رغباته... البلاد غير الأوربية تحضرت من أجل الاستهلاك... وقد تم التعريف بالحضارة على أنها المدنية" [16] .

إن ما ينبغي ملاحظته في خاتمة هذا المبحث هو "أن تحديدات هاتين اللفظتيـن "Culture" و "Civilization" غـير مستـقرة، وكثـيرا ما تتداخلان في تناول الفكر الأوربي لهما، فهناك من يجعل مفهوم"Civilization" مرادفا لمفهوم "Culture" مثل تايلور ومعجم ويبستر المطول. وهناك من يجعل مفهوم الـ"Civilization" قاصرا على نواحي التقدم المادي أو شاملا لكل أبعاد التقدم. وهناك من قصر المفهوم على النواحي الخاصة بالفرد. ومن يرى أنها تشمل الفرد والجماعة. وهناك من يرى عالمية الـ "Civilization" أما الـ"Culture" فهي خاصة بكل شعب. وهناك من يرى العكس؛ أي أن هناك اضطرابا في استخدام هذه المفاهيم في أوروبا ذاتها"



[17] . [ ص: 52 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية