الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- عوامل سقوط الحضارات في الرؤية الغربية:

تجمع معظم مذاهب التفسير الوضعي على القول بحتمية سقوط الحضارات، فـ"ماركس" يخضع حركة التاريخ، بدولها وحضاراتها وتجاربها، لحتمية تبدل وسائل الإنتاج وانعكاسه على الظروف، ويرى أن كل وضع تاريخي مآله الزوال بمجرد هذا التبدل الديناميكي "الحركي" الدائم، لكن ما يلبث "ماركس" أن يقع في تناقض أساس مع نظريته عندما يقرر الدوام والثبات لمرحلـة حـكم الطبقة العاملة حيث لا زوال بعدها. أما "شبنجلر" و"توينبي" فيؤكدان حتمية السقوط كأمر لا مفر منه [1] ، غير أن "توينبي" يقع هو الآخر في تناقض حينما يؤكد أن هناك أملا في بقاء [ ص: 76 ] الحضارة الغربية المعاصرة بوجه الأعاصير، حيث إنه نظر إلى بقية الإشعاعات اللاهوتية الكامنة فيها فقرر أزليتها؛ وذلك لأن كل مادة وكل وقود يتحول إلى إشعاع [2] .

وقد أرجع توينبي سقوط الحضارة إلى ثلاثة أسباب هي:

1- ضعف القوة الخلاقة في الأقلية الموجهة وانقلابها إلى سلطة تعسفية.

2- تخـلي الأكثـرية عن مـوالاة الأقلية الجديدة المسيطرة وكفها عن محاكاتها.

3- الانشقاق وضياع الوحدة في كيان المجتمع كله

[3] .

وفي دور انحلال الحضارات فإن الفساد يدب في أرواح الناس، ويطرأ على سلوكهم ومشاعرهم وحياتهم تغيير جذري، ويحل محل الصفات الباهرة والقوى المبدعة التي كانت تزخر بها ذواتهم في دور النمو الحضاري ثنائية من النزعات والمواقف العقيمة المتناقضة، ثنائية في السلوك تتقاذف نفوس الأفراد بين استسلامها المطلق لمشيئة المقادير الجارية وبين انضباطها انضباطا شديدا بالإرادة القاهرة، وثنائية في الشعور تتقاذف قلوب الناس، وفي هذا الدور يتعرى الفساد الروحي أيضا عن فوضوية تعم الأخلاق والعادات، وانحطاط [ ص: 77 ] يسود الآداب والفنون واللغات، ومحاولات عقيمة للتوفيق بين مختلف الديانات والفلسفات. وتسعى الأقلية المسيطرة في حالات معينة إلى أن تفرض بالقوة على رعاياها فلسفة خاصة أو دينا مختارا ولكنها تخفق في محاولتها هذه باستثناء حالة شاذة تتمثل في الكيفية التي انتشرت بها الدعوة الإسلامية بين الأمم المغلوبة [4] .

وحتمية سقوط الحضارة الغربية ترجع إلى النظريات التي تأسست في ضوئها تلك الحضارة، التي ارتبطت بقدرات الإنسان والطبيعة، و من ثم فقد تحكمت تلك التفاسير في سيرورة الحضارة، كما تحكمت في نشوئها ابتداء. وعلى الرغم من أن الحضارة المعاصرة تعيش مأزق تعاملها مع المحسوس واقتصارها على عالم الشهادة وعجزها عن الإجابة على الأسئـلة الكلية، إلا أن هنـاك من نظر إلى بقية الإشعـاعات اللاهـوتية الكامنة فيها فقرر أن الحضارة الغربية باقية وأزلية، وذلك لأن كل مـادة وكل وقود يتحول إلى إشعاع، أما بقية الحضـارات فهي إمـا مهـددة بالزوال والانقراض أو الذوبان في الحضارة الغربية [5] .

وخلاصة الأمر؛ إن ذات العوامل التي قامت عليها الحضارة الغربية هي في الوقت ذاته العوامل التي أدت إلى تدهورها وستؤدي حتما إلى زوالها. [ ص: 78 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية