الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الأول

الرؤية الغربية لعوامل قيام وسقوط الحضارات

1- عوامل قيام الحضارات في الرؤية الغربية:

كل حضارة تصطبغ في منهجها كله، وفي إنتاجها جميعه بلون الفكرة التي منها نشوؤها وتطورها، حتى أنه ليتكون من ذلك في كل حضارة فقه خاص بها يتمثل في منطق داخلي تتكون عليه بنيتها وتتحكم به سيرورتها انفعالا بالفكرة التي نشأت منها، ويتمايز ذلك المنطق بين حضارة وأخرى، ومعروف لدى فلاسفة التاريخ والحضارة أن الحضارة التي تتمخض عن عقيدة ما، يرتبط مصيرها إلى حد كبير بدوافع نشوئها، فإذا ضعف الدافع العقدي أو عانت المعطيات الحضارية من تقطعه وغيابه بهذه النسبة أو تلك فقدت قدرتها على النمو والاستمرار، وتفككت الأواصر التي تشد أجزاءها وتحركها صوب هدفها المرسوم [1] . [ ص: 69 ]

فإذا أمعنا النظر في العوامل التي أنشأت الحضارة الغربية أمكننا استخلاص النقاط التالية:

أولا: حصرت النظريات الغربية نفسها وهي تفسر نشوء الحضارات في عاملين يعودان للطبيعة والإنسان، ولا يمكن فهم انغلاق هذه النظريات على هذين البعدين، الإنسـان والطبيعة، إلا بفهم الظروف والبيئة التي نشأت فيها تلك النظريات وهي - أي النظريات - التي شكلت التصور عن الحياة والكون والوجود ككل، حيث إن النظرة للوجود انبثقت من نظرية المعرفة في الفكر الغربي، ومن المعروف أن النظريات العامة عن الوجود في الفكر الغربي ترتد في أصولها الأولى والمنشئة لها إلى التراث اليوناني - الروماني الغارق في الوثنية والتعددية، ولقد نتج عن هذا التصور نزعات فلسفية مثل المادية والطبيعية، وهذه النـزعات في مجملها كانت وليدة القول بمحورية الإنسان الفرد الصمد.

ولقد كان من نتائج انحصار الفلسفة الغربية في دراسة الواقع المحسوس أو عالم الشهادة تمركزها حول الذات الإنسانية والطبيعة [2] ، فلا غرو أن يعتبر الجنس أو العرق هو العامل الأساس في إنشاء الحضارة، وأن يكون الجنس الأبيض هو منشئ الحضارة لما يتمتـع به من خـواص حددها واضعو تلك النظريات، وأن تدخل الطبيعة هي الأخرى كعامل في نشأة [ ص: 70 ] الحضارة، وأن ينشأ صراع بين الإنسان والطبيعة لتتفجر طاقات ذلك الإنسان الفرد الصمد













[3] .

وقد أدى هذا الصراع بين الإنسان والطبيعة في الفكر الغربي إلى ظاهرة الإفساد بديلا للتعمير، حيث إن الإنسان في تعامله مع الكون يتحرك وفق تصور إيديولوجي، وذلك في نطاق تصوره للوجود عامة. ولعل ما رافق حياة بعض الناس من تأليه لعناصر الطبيعة منذ القدم إلى الآن يمثل أجلى مظهر لعلاقة الإنسان العقدية بالكون، وبناء على ذلك فإن البعد العقدي [ ص: 71 ] للكون يعتبر عنصرا أساسيا في الحضارة من حيث نشوئها وتطورها أساسا، ومن حيث صبغتها ومنحاها بعد ذلك. وذلك لأن الصورة التي يحملها الإنسان عن الكون من حيث مأتاه ومصيره، ومن حيث طبيعته وتركيبه، ومن حيث قيمته وعلاقته بالإنسان ستكون هي المحددة لموقف الإنسان العملي من الكون التحاما به واقتحاما لمناكبه، أو ابتعادا عنه وانكماشا عن السعي فيه، واستعلاء عليه وتسخيرا لمنافعه أو تخوفا منه وتذللا له، وتاريخ الحضارات شاهد على ذلك [4] .

ولقد رسم الإسلام تصوره للعلاقة بين الإنسان والعالم، وهي علاقة تقوم على الوئام والانسجام والتكامل والوفاق والتجانس والالتحام بين الإنسان والطبيعة، بين الجماعة المؤمنة والعالم، فما دامت قوى الطبيعة وطاقاتها قد سخرت أساسا لخدمة الإنسان ومساعدته على الرقي الحضاري وإعمار العالم فإن العلاقة بينهما ليست علاقة قتال وصراع وغزو وبغضاء إنما علاقة انسجام وتقابل وتواصل وتعـاون وتكامل وتكشف وتنقيب... إن فكرة الصراع بين الإنسان والعالم نظرة غربية صرفة، وهي مهما وضعت في أطر فلسفات شاملة تبدو للوهلة الأولى منطقية ومبررة فإننا بمجرد التوغل في دقائقها ومنحنياتها سنعثر على منطق الصراع، الذي تنبني عليه معطياتها، صراعا يضعه "هيجل" في عالم الفكر ويبرر به أي شوفينية يمارسها شعب أوربي متفوق لاستعباد وقتل الشعوب المستضعفة، ويضعه "ماركس" في [ ص: 72 ] ميدان التبدلات المادية ليبرر به أي مذبحة تمارسها طبقة ضد طبقة. والتصور الإسلامي على العكس من ذلك إذ يرى أنه ما دام الإنسان قد خلق وفق صيغة تشتبك فيها قوى الروح والمادة فإن له أن ينطلق في نشاطاته من نقطة التوازن، الذي ينتفي فيه الصراع ويتحول الجهد الإنساني إلى سعي خلاق من أجل التوحد والتكامل والانسجام. وأنه ما دام قوى العالم - من جهة أخرى - قد سخرت لمهمة الإنسان الأرضية فإن علاقة الإنسان به ليست علاقة صراع واقتتال إنما هي محاولة الكشف والتنقيب والاندماج للوصول إلى أكبر قدر ممكن من التفاهم بين الإنسان والعالم بعد الكشف عن سننه ونواميسه الطبيعية



[5] .

إن مما لا جدال فيه في عصرنا الراهن أن الحضارة المعاصرة أفسدت البيئة الكونية؛ لأن علاقاتها بالكون تأسست على فكرة الصراع والمغالبة دون استصحاب للقيم الأخلاقية فبرزت المشـكلات المستجدة في العالم المعاصر من قبيل المشكلة البيئية، واستنفاد الموارد ومصادر الطاقة المخزونة، وتراكم النفـايات، والتعاظم المتوالي لأسلحة الدمار الشامل والحروب المهلكة للحرث والنسل. وهذا الفساد هو نتيجة للسلوك الإنساني غير الراشد: [ ص: 73 ] ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) (الروم:41)، ( والله لا يحب المفسدين ) (المائدة:64).

ثانيا: تم استبعاد البعد الغيبي في عوامل قيام الحضارة الغربية فتعاملت الحضارة مع عالم الشهادة، واقتصر علمها وقوانينها وتمثلاتها للوجود على المفاهيم الوضعية القائمة على الصراع، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن النظريات الغربية عملت على تضخيم دور الإنسان بجعله مركزا وإلها للكون، كما عملت الفلسفية الواقعية على تضخيم دور الطبيعة فألهتها هي الأخرى. وهذا يعني أن الحضارة الغربية سعت وتسعى لتحقيق اللذة والمنفعة للإنسان، أي إشباع غرائزه مع إهمال الجانب الروحي، فظهر تبعا لذلك الخواء الروحي في العالم المعاصر وتعالت الصيحات المنذرة بالخطر.

ثالثا: إن مقياس التفوق الحضاري لا يكمن في حجم الإنتاج الكمي بقدر ما يكمن في أخلاقية الجماعة المتحضرة وسعيها لخدمة الأهداف الإنسـانية الشاملة، وهذا ما لـم تنتبه له الحضارة الغربية، إذ إنها تتجاوز -حتى على مستوى الفكر والفلسفة- حدود الموضوعية الشاملة وتهبط كثيرا عن أخلاقية الإنسان بما هو إنسان، فتحصر أهدافها ومعطياتها في نطـاق دولة أو عرق معين كما هو الحال عند "هيجل"، أو طبقة معينة كما هو عند "ماركس" ورفاقه، أو على أحسن حال في إطار وحدة حضارية معينة كما هو الحال عند "توينبي" [6] . [ ص: 74 ]

رابعا: وحيث إن الحضارة الغربية تتعامل مع المحسوس فقد استحكمت فيها قيم المنفعة واللذة، ومن ثم فإن حركتها قائمة على فلسفة الصراع، ذلك أن فكرة البحث عن عدو كامنة في فلسفتها.

خامسا: إن انفصال الحضارة عن الدين وتحررها من سلطانه أفضى ويفضي بها ولا بد إلى انحلال الأخلاق وانحطاطها، عاجلا أو آجلا، وقد استحالت الحياة في الغرب - نتيجة لإبعاد الدين - إلى عبثية، فتنامت على ساحتها مشكلات لا يرجى منها برء كانهيار الأسرة وانتشار المخدرات والزواج من ذات الجنس وغيرها من الأعراض، التي صارت تشكو منها المجتمعات الغربية.

سادسا: ولأن الحضارة الغربية أهملت الدين وتعاملت مع المحسوس وفقا لمنهج المعرفة التجريبية فقد تعاملت مع الإنسان بما فيه من مشاعر بوصفه مادة، ومن ثم فقد انعكس ذلك على الواقع الإنساني، يقول "كاريل": "إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، لقد أنشئت دون أي معرفة بطبيعتنا الحقيقية إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية وشهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتـهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنـا" [7] . [ ص: 75 ] أما "كولن ولسن" فإنه يقول: "وكنت أنظر لحضارتنا نظرتي إلى شيء رخيص تافه باعتبار أنها تمثل انحطاط جميع المقاييس العقلية... انعدام الجانب الروحي في حضارتنا الماديـة" [8] .

سابعا: لا مخرج للحضارة الغربية من الانهيار والتدهور، الذي بدأت تستعظم أخطاره في نظر "البرت شفيتسر"، إلا بإيجاد نظرية كونية تسير حركتها [9] .

التالي السابق


الخدمات العلمية