الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الأول

المفاهيم

- مقدمة:

تعتبر مشكلة تحديد المفاهيم والمصطلحات والمفردات المعرفية من أخطر ميادين التدافع الحضاري، "إذ أنها المعبر عن الثوابت الحضارية والمرجعية الثقافية، ذلك أن المفاهيم والمصطلحات، أو ما يمكن أن نعبر عنه بعالم الأفكار والعقائد، هي وسائل التحصين وأسلحة التدافع وأدوات الحوار الحضاري" [1] .

إن عملية تحديد المفاهيم "هي اللبنات التي تؤسس منها المنهجية، ومن ثم فما من عمل منهاجي إلا ويكون قوامه عملية التأصيل للمفاهيم" [2] . كما إن تحليل المفاهيم الأساسية لأي فرع أو حقل معرفي "يعتبر المدخل الأول لتفكيك ذلك الفرع أو الحقل بشكل يسمح بتشخيصه وتحديد وضعيته ومعرفة مبادئه ومداخله. فالمفاهيم ليست ألفاظا كسائر الألفاظ، وإنما هي [ ص: 29 ] مستودعات للمعاني والدلالات، كثيرا ما تتجاوز البناء اللفظي وتتخطى الجذر لتعكس كوامن فلسفة الأمة ودفائن تراكمات فكرها ومعرفتها" [3] .

إن المفهوم ليس مدركا عقليا يدور في إطار البحث اللغوي واللفظي البحت "ولكنه يشكل صياغـة جوهر الوعـي الحضاري ذاته، فإن الوعي لا يعد أصيلا إلا إذا نفذ إلى الأعماق، وصاغ الأحاسيس، وشكل النيات المعرفية، وصاغ هوى الإنسان المسلم، وبالتالي صاغ الحياة كلها" [4] .

كما إن لكل لغة عقلها وإطارها الفكري الذي يعطي لمفاهيمها دلالات وظلالا لا يمكن أن تتطابق مع لغة أخرى، "غير أن المصطلحات التي ينظر من خلالها إلى التاريخ وتقوم من خلالها جهود الأمم إنما هي مصطلحـات غربية مشحونة بمدلولات غربية تنبثق عن الرؤية الخاصة للفكر الغربي. فبالنسبة لمفـاهيم البدائية والتقدم والتخلف والرقي والتأخر فإن هذه المصطلحات تنبثق من واقع المجتمعات الغربية وظروفها. ولم يأت تحديد هذه المصطلحات نتيجـة استـقراء حقيقي لأنماط الحياة الإنسانية ونشاطها، ولم يأت من دراية بحركة التاريخ الإنسـاني في ظروفه المختلفة، [ ص: 30 ] كما أنها لم تأت من قواعد عامة مطردة تصلح للتطبيق في كل الظروف ومع كل الشعوب" [5] .

ومن هنا يمكن القول: إن "وضوح المفهومات والمصطلحات الإسلامية، ومحاولة إشاعتها وإحيائها وإدراك دلالاتها يعتبر من الأمور المهمة في بناء المرجعية والتحصين الثقافي والانطلاق إلى ميادين التدافع والحوار بالزاد الكافي؛ لأن المفهومات والمصطلحات الإسلامية تشكل أوعية التفكير وجذوع النسغ الحضاري الممتد من الماضي إلى الحاضر والمستقبل وتمثل خلاصات لمعطيات الوحي والعقل معا، إضافة لما لها من رصيد نفسي وثقافي، واختبـار تطبيقي تاريخي يجعلها محل ثقة واستمساك، إذ إنها تشكل ملامح حضارة الأمة ومحصلات الفكر وأبجديات قراءة الهوية ومعالم الطريق" [6] .

ومن المعروف أن أي مصطلح لا يفرض نفسه على السطح إلا إذا واكبته مكونات معينة توحي به وباستخدامه. وغالبا ما تكون هينة لينة في أول أمرها، لتنمو وتزدهر حتى وإن كانت في صورة مضمرة، حينئذ يأخذ المصطلح الصورة العلوية الظاهرة ليعبر عن مضمون بدأ يسري حثيثا ليظهر نفسه فيما نعرفه به" [7] . [ ص: 31 ]

إن المفاهيم الإسلامية "قد تم تنحيتها وتقديم بدائل لها أو فرضها فرض الأمر الواقع من حيث انتشارها وتداولها بين الجماعة العلمية، لذلك فإن الرؤية الإسلامية - وهي تتعامل مع الواقع الفكري السائد، في ظل سيادة المفاهيم والمعايير الغربية، ومفاهيم إسلامية لفظا لكنها فرغت من معانيها الأصلية - تضع في حسبانها أهمية الضبط النظري للمفهوم قبل الممارسة الواقعية، وضبط فوضى المفاهيم" [8] .

وتعود تلك الفوضى إلى عدم القيام بمهمة البيان على وجهها الصحيح، يعبر عن ذلك الغزالي بقوله: "... كثر الخبط؛ لأنهم لم يحصلوا معنى هذه الألفاظ واختلافات الاصطلاحات فيها، وكيف تخاطب خصمان في أن العقل واجب وهما بعد لم يفهما معنى الواجب، فهما محصلا متفقا عليه بينهما، فلنقدم البحث عن الاصطلاحات، ولابد من الوقوف على معنى ستة ألفاظ وهي: الواجب، والحسن، والقبيح، والعبث، والسفه، والحكمة؛ فإن هذه الألفاظ مشتركة ومثار الأغاليط إجمالها، والوجه في أمثال هذه المباحث أن نطرح الألفاظ ونحصل المعاني في العقل بعبارات أخرى، ثم نلتفت إلى الألفاظ المبحوث عنها وننظر إلى تفاوت الاصطلاحات فيها..." [9] .

هذه المنهجية، التي حددها الغزالي هي ذات المنهجية التي سوف نتبعها في هذه الدراسة حيث سوف نحلل مفهومي رؤية العالم والحضارة من ذات النسق المعرفي المنتمية إليه. [ ص: 32 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية