الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ملاحظة أخيرة: وتبقى ملاحظة هـامة لا بد من الوقوف عندها، ونحن في معرض الحديث عن سنن النفس والمجتمع، وهي أن الحقيقة التي انتهينا إليها من ( أن النفس والمجتمع يخضعان لسنن صارمة لا تختلف عن تلك السنن التي تخضع لها المادة ) لا تعني أن النتائج التي انتهت إليها البحوث الاجتماعية والنفسية، التي بين أيدينا اليوم هـي نتائج صحيحة مائة بالمائة، ولا أن القواعد الاجتماعية والنفسية التي توصل إليها بعض الباحثين صحيحة [ ص: 63 ] مائة بالمائة كذلك [1]

.. فما توصل إليه البشر من اكتشافات في هـذا المجال أو ذاك قد يصيب أو يخطئ بمقدار ما يقترب من الحقيقة أو يبتعد عنها، وقد حدث مثل هـذا مرارا، حتى بالنسبة للعلوم الرياضية، التي يحسب معظمنا أنه لا يأتيها الباطل أبدا.. فكم من نظرية رياضية ظلت محل قداسة وتقدير دهورا طويلة، ثم نقضت من أساسها، وظهر بطلانها.. وهكذا علم الاجتماع وعلم النفس، وغيرهما من العلوم الإنسانية، فهذه العلوم المختلفة تعد اكتشافات بشرية قد تصيب وقد تخطئ، وهذا الأمر يختلف عما نريد إثباته هـنا، وهو أن النفس البشرية والمجتمع البشري كليهما يخضعان لسنن ربانية صارمة، كما تخضع المادة، سواء بسواء.

ويجمع الباحثون في العلوم الإنسانية، بما فيهم الباحثون الاجتماعيون والنفسيون، على أن علمي الاجتماع والنفس بوضعهما الحالي لا يعبران تعبيرا موثوقا عن طبيعة السنن النفسية والاجتماعية، أو بمعنى آخر فإن هـذين العلمين ما يزالان قاصرين عن معرفة هـذه السنن معرفة يقينية دقيقة.. ويمكن إرجاع أزمة هـذين العلمين إلى عدة عوامل، نذكر منها:

(1) أن الاهتمام بالدراسات النفسية والاجتماعية - على مدار التاريخ - كان أقل بكثير من الاهتمام بالدراسات المادية الأخرى، مما جعل علم النفس وعلم الاجتماع متخلفين بمراحل عديدة عن العلوم المادية التي تطورت تطورا مذهلا، وبخاصة في العصر الحديث..

(2) أن الظواهر الاجتماعية والنفسية شديدة التعقيد، كما قدمنا. [ ص: 64 ] (3) أن العامل البشري كثيرا ما يتدخل في تفسير الظاهرة الاجتماعية أو النفسية، فينأى بها عن الموضوعية.

(4) أن المنهج السائد اليوم في البحوث النفسية والاجتماعية يحتاج إلى إعادة نظر وتقويم؛ لأن معظم الباحثين مازالوا يؤسسون معتقداتهم على أساس من التجارب التي تجري على الحيوان، ثم يعممون هـذه النتائج على عالم البشر، وفي هـذا خلط عجيب؛ لأنه يفترض أن السنن الخاصة بعالم الحيوان هـي ذات السنن السائدة في عالم الإنسان بينما هـما عالمان مختلفان اختلافا جذريا، فهما وإن اتفقا في بعض الصفات الحيوية من حيث الشكل، أو التركيب، أو الوظائف، إلا أنهما يختلفان من حيث التكوين النفسي والعقلي.. وهذا ما يجعل تعميم التجارب الحيوانية على الإنسان خطأ فاحشا، يؤدي بالضرورة إلى أحكام بعيدة غاية البعد عن الحقيقة.

ولا نريد أن نستطرد أكثر في تفنيد مشكلات علمي النفس والاجتماع، إلا أننا نريد التأكيد هـنا على نقطة أساسية، وهي أننا إذا ما توصلنا يوما ما إلى معرفة سنة اجتماعية أو نفسية معرفة يقينية، فإننا سنجد أنها لا تختلف عن أية سنة مادية أخرى من حيث شمولها وصرامتها، وسوف نجد كذلك أننا نستطيع صياغة هـذه السنة الاجتماعية، أو النفسية، صياغة رياضية، كما نصوغ أية معادلة رياضية صحيحة.

.. وهكذا يبدو لنا جليا أن كل ما في هـذا الكون من جماد وحيوان ونبات يخضع لسنن ربانية محكمة.. وأنه لا شيء في هـذا الوجود خارج عن سنة الله.. بل الكل خاضع له سبحانه.. وصدق الله العظيم الذي يبين هـذه الحقيقة الباهرة في محكم تنزيله فيقول: ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) (الرعد: 15) . [ ص: 65 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية