الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
واقعنا المعاصر

.. وحين ينظر أي مسلم غيور على أمته ودينه إلى حال هـذه الأمة اليوم، فإنه لا يشعر بالرضى أبدا، لأنه يراها في حال من الضعف والهوان، وقد تكالبت عليها أمم الأرض قاطبة، حتى باتت نهبا لكل طامع

ونتساءل من جديد ( ذلك السؤال القديم الساذج ) : أني هـذا؟ وكأننا بهذا السؤال ننفي تبعة هـذه الحال عن أنفسنـا، والله عز وجل يقول: ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) (الشورى: 30) .

أجل إن هـذا الحال من أنفسنا نحن، من غفلتنا عن منهج الله، وعن سننه في الخلق، وإن واقعنا ليشهد بهذه الحقيقة بلا جدال.. ولنأخذ – على سبيل المثال لا الحصر – بعض السنن التي جعلها الله طريقا للفلاح والنجاح والسيادة، ثم لننظر كيف فرطنا بها، ففرط الله بنا.. [ ص: 169 ] فقد جعل الله عز وجل سنة للنصر لا تتخلف إلى يوم القيامة، فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (محمد: 2) .. وها نحن مهزومون في كل ميدان، أمام أنفسنا، وأمام أعدائنا.. مما يعني أننا لم ننصر الله حق نصره

كما جعل الله عز وجل سنة لإرهاب العدو، وقذف الرعب في قلبه، فقال تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) (الأنفال: 60) .. فماذا يقدم لنا واقعنا الحالي؟ إنه يقدم لنا صورة مهزوزة هـزيلة غير هـذه الصورة، التي أمرنا الله أن نكون عليها، إذ نرى ديارنا تعيش اليوم تحت رحمة الدول المستكبرة الكافرة، بعد أن كنا سادة الأرض.. وقد نزع الله رهبتنا من قلوب أعدائنا، فلا يقيمون لنا وزنا، ولا يلتفتون إلى رأينا حتى في القرارات المتعلقة بمصيرنا نحن

وجعل الله عز وجل للبركة والغنى وسعة الرزق سنة كريمة، فقال تعالى: ( (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنـا عليهم بركات من السماء والأرض ) (الأعراف: 96) .. وها هـي ذي ديارنا تعاني من الفقر والجوع، والجهل والمرض، على الرغم مما تزخر به أراضينا من ثروات هـائلة.. مما يعني أن نفوسنا تعيش اليوم أزمة إيمان وتقوى. (ولا حول ولا قوة إلا بالله)

وهكذا.. إن أردنا أن نعدد السنن التي أخللنا بها في واقع حياتنا لأعيانا العد، وكأننا لم نسمع قول الله جلت قدرته، وهو يتوعد الذين يخالفون عن أمره أشد وعيد: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) (النور: 63) بل إنه سبحانه ليتوعدهم بما هـو أشد من ذلك.. إنه يتوعدهم بالهلاك ( (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) (محمد: 38) .

***
[ ص: 170 ]

حقيقة لا بد من الاعتراف بها، على الرغم من مرارتها.. إننا اليوم نعيش في غفلة عن سنة الله في الخلق، مع أننا لا نفتأ نردد ليلا ونهارا قول الحق تبارك وتعالى: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) (آل عمران: 137) ونردد كذلك قوله تعالى: ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) (النساء: 123) ثم.. لا نعمل بمقتضى هـذه التوجيهات الربانية الحكيمة

فلا نحن نسير في الأرض، فننظر كيف سارت حياة الأمم التي سبقتنا، فنعتبر بها، ونأخذ السنن التي تعيننا على أداء أمانة الاستخلاف، كما أمرنا رب العزة سبحانه.

ولا نحن نتعامل مع الوجود من حولنا تعاملا واقعيا يراعي سنن الله في هـذا الوجود، بل نتعامل معه تعاملا خياليا ينبع من الأماني والأحلام.. ونحسب – فوق هـذا – أننا أصحاب امتياز على سائر الأمم الأخرى، مادمنا مسلمين، دون أن نعطي هـذا الإسلام حقه في العلم والإخلاص والتضحية.

فهل نستغرب بعد هـذا، ونحن نسير عكس الريح، ألا يصل المركب بنا إلى حيث نريد؟

ولعل أعجب ما في أزمتنا أننا – على الرغم من كل الأخطاء التي نرتكبها – أننا لا نعجز عن اختلاق المبررات والأعذار أمام أنفسنا وأمام الآخرين.. فما أيسر أن نتهم الريح أنها جاءت من الشرق، بدل أن تأتي من الغرب، وأما الاعتراف بأننا أخطأنا فوضعنا المركب عكس الريح.. فهذا ما لا يكون أبدا.

وعلى هـذه الشاكلة النكدة، تمضي سيرتنا مع كل قضية نواجهها، فنتعامل معها من منطلق أننا دوما على صواب، ونزعم أن الظروف الخارجية [ ص: 171 ] لم تكن مواتية، وأنها هـي التي ارتكبت الخطأ، لا نحن.. وعلى هـذا المنوال تدخل القضية في متاهة ( الاستحالة ) ولا يبقى علينا إلا أن نسدل عليها الأردية القاتمة، لنخفيها حتى عن أنفسنا، وكأن إخفاءها سيغير من واقع الحال شيئا.

التالي السابق


الخدمات العلمية