الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
دلائل من علم النفس وعلم الاجتماع: .. وندرك من خلال الأمثلة التي سبقت أن العالم المادي ( الحي وغير الحي ) محكوم بمجموعة من السنن التي توجه مساره، وتحدد وجهة تطوره.. فماذا عن النفس البشرية والحياة الاجتماعية.. هـل يخضعان كذلك لسنن مخصوصة؟

والجواب الذي نقطع به دون تردد هـو: أجل.. فإن سنن الله عز وجل لا تحكم العالم المادي وحده، بل هـي تحكم ما في هـذا الوجود من خلائق، سواء أكانت مادية كالذرة، والكهرباء، والحرارة، أم كانت معنوية كالعواطف الإنسانية، والسلوك الاجتماعي.. وهذا ما تأكده آيات كثيرة من القرآن الكريم، من مثل قوله تعالى: ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) (آل عمران: 83) .. فالكل خاضع لله.. خاضع لسننه التي فطر الخلق عليها..

وكما أن الماء يطفئ النار..

وكما أن المعدن يتمدد بالحرارة ويتقلص بالبرودة..

وكما أن رمي الحجر في الفضاء يجعله يسقط إلى الأرض..

وكما أن التقاء النطفة بالبيضة يولد الجنين..

وهذه كلها سنن مادية مشاهدة مدركة.. فكذلك السنن التي تحكم النفس البشرية والحياة الاجتماعية، فهي سنن تقوم على مقدمات ونتائج، وترتبط نتائجها بمقدماتها ارتباطا وثيقا مقدرا من الله عز وجل .

ويقدم لنا الواقع المشاهد أدلة عديدة تثبت هـذه الحقيقة.. فنحن نشاهد مثلا أن الحسد (وهو انفعال نفسي محض) يؤدي إلى نتائج مدركة تظهر بوضوح من خلال سلوك الحسود وتصرفاته، كما تظهر فيما يعانيه الحسود من [ ص: 58 ] ضيق وتبرم بالحياة، وقلق يقض مضجعه، وينغص عليه عيشته.

ويجمع علماء النفس من خلال ما حصلوه من معلومات وخبرات عن طبيعة النفس البشرية، بأن هـذه النفس محكومة بسنن صارمة، تقرر حالها، من حيث الصحة والمرض، والسعادة والشقاء، كما يجمعون على أن الوضع النفسي للفرد يتوقف بصورة مؤكدة على عوامل عديدة، كالثقافة والظروف البيئية والاجتماعية والسياسية.. وعوامل أخرى بات كثير منها معروفا اليوم للباحثين في ميدان علم النفس، بحيث أصبح هـؤلاء الباحثون قادرين على علاج كثير من الاضطرابات النفسية والسلوكية بناء على هـذه المعرفة. ويثبت القرآن الكريم هـذه الحقيقة دون لبس، ويبين بوضوح تام، أن حال الإنسان من حيث السعادة والشقاء مثلا مرهونة بنظرته إلى الحياة، وبموقفه من هـذه الحياة.. ففي سورة الشمس، يخبرنا الله عز وجل بأن صلاح الإنسان مرهون بتزكيته نفسه، وأن شقاءه بالمقابل، مرهون بتدسية هـذه النفس.. قال تعالى: ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) (الشمس: 7-10) .

فهذه سنة نفسية تصدق على أي إنسان، فأيما إنسان صدق العزم، وأخلص النية، وزكا نفسه، فنأى بها عن المحرمات، وعن الخبائث، فإن الفلاح سيكون من نصيبه، وأيما إنسان دنس نفسه بالحرام، ورضي بالخبائث فإن الخسارة نازلة به لا محالة.

ولقد قدم لنا القرآن الكريم السنة التي تحكم سعادة الإنسان وشقاءه بصورة معادلة رياضية لا تقبل الجدل، وذلك في قوله سبحانه: ( فإما يأتينكم مني هـدى فمن اتبع هـداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) (طه: 123-124) فالسعادة والشقاء - كما يقرر الحق تبارك وتعالى - رهن بالتزام شرع الله، أو النأي عنه ورفضه، وهذه سنة ربانية تحكم حياة البشر، وستظل تحكمها إلى يوم القيامة. [ ص: 59 ] ولو تتبعنا الآيات القرآنية، لوجدناها تعرض لنا الدليل تلو الدليل على أن النفس البشرية خاضعة لسنن صارمة، لا تقبل التبديل ولا التحويل.

فإذا ما انتقلنا بعد ذلك من نطاق النفس البشرية، إلى نطاق المجتمع، فإننا سنجده أيضا محكوما بسنن ربانية صارمة شأنه شأن النفس.. ولا عجب في هـذا فإن المجتمع في الحقيقة ليس إلا مجموعة من الأفراد.. وأن حال المجتمع يعكس سلوك هـؤلاء الأفراد أنفسهم، ومن ثم فإن مصير المجتمع بأسره مرهون بسلوك أفراده.. نجد مصداق هـذا في قوله تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد: 11 ) ، وقوله تعالى: ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( الأنفال: 53 ) ، وقوله كذلك: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) (الأنفال: 25 ) ، وفي هـذا دليل على أن سلوك الناس، الذين يشكلون مجتمعا ما، يعد بمثابة مقدمة لنفاذ السنة المرتبطة بهذا السلوك.. وبمعنى آخر فإن انتقال المجتمع من حال إلى حال لا يحصل عشوائيا. بل يحصل وفق سنن ربانية تحكم مساره وتضبط وجهته.

وقد حدثنا القرآن الكريم عن حياة مجتمعات مختلفة، منها من عاش حياة رغيدة آمنة، ومنها من ذاق لباس الخوف والجوع، ومنها من باد وهلك بعذاب أليم، وتأتي هـذه اللمحات القرآنية لتلفت انتباهنا إلى وجود سنن ربانية تحكم حياة المجتمعات البشرية قاطبة، وتقرر مصيرها.. وقد كان البيان القرآني واضحا، حين قرر أن رقي المجتمعات أو انحطاطها مرهونان بالتزام شريعة الله، أو النأي عنها، ففي باب الرقي وبسط النعمة، نجد قوله تعالى: ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) (الأعراف: 96 ) .

وفي باب الانحطاط يخبرنا القرآن الكريم مثلا عما آلت إليه حال النصارى، عندما انحرفوا عن خط التوحيد، فكان جزاؤهم أن انتشرت بينهم نار العداوة والبغضاء: ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا [ ص: 60 ] به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) (المائدة: 14) ، فلما انحرفوا عن خط التوحيد أشد من ذلك حقت عليهم سنة ربانية أخرى، وكان الهلاك مصيرهم: ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) (الأنعام: 44) .

* وهذه كلها سنن ربانية ماضية في الناس إلى يوم القيامة.

وإلى جانب القرآن الكريم نجد عددا غير قليل من الأحاديث النبوية، التي بينت الكثير من السنن النفسية والاجتماعية.. ولنستمع مثلا لهذا الحديث النبوي الجامع الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم : ( .. لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع، التي لم تكن في أسلافهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط عليهم عدو من غيرهم، فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم. ) [1]

فهذه كلها سنن اجتماعية لا تتخلف نتائجها عن أسبابها، فهي كالمعادلة الرياضية، التي ترتبط فيها النتيجة بالمقدمة ارتباطا محكما لا يقبل التبديل.

التالي السابق


الخدمات العلمية