الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
اعتراض: يبدي بعض الباحثين تحفظهم تجاه شمولية السنن؛ لأنهم يظنون أن المادة وحدها تخضع لسنن صارمة، يمكن أن تصاغ صياغة رياضية دقيقة، بينما لا تخضع النفس البشرية ولا الحياة الاجتماعية، لمثل هـذه الصرامة، ويظنون فوق هـذا أن التغيرات النفسية والاجتماعية تتم في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب [ ص: 61 ] وقد عمق هـذا الظن ما حدث من فارق كبير بين تقدم العلوم الرياضية والمادية من جهة، وبين تقدم العلوم الاجتماعية والنفسية من جهة أخرى.. فقد قطعت العلوم المادية عموما شوطا بعيد المدى، وقدمت إنجازات علمية هـائلة، وأثبتت جدارتها ومصداقيتها في معظم الأحوال.. وأما علوم النفس والاجتماع فما زالت عند البدايات الأولى؛ لأنها لم تعط الأهمية ذاتها، ولهذا ظل معظمها عاجزا عن تفسير سلوك الإنسان تفسيرا صحيحا دقيقا، وظلت هـذه العلوم جاهلة بمعظم السنن، التي تتحكم بسلوك الفرد والمجتمع، مما جعل هـذه العلوم متخلفة بمراحل واسعة عن علوم المادة، لكن هـذا لا يعني أن النفس والمجتمع لا يخضعان للسنن كما تخضع المادة، بل معناه أن الإنسان نفسه مازال مقصرا في كشف سنن النفس والمجتمع..

والظاهر أن الالتباس في مسألة السنن النفسية والاجتماعية، وعدم اعتبارها صارمة كالسنن المادية الأخرى، يرجع إلى أن المادة يمكن أن تخضع للتجربة المباشرة في المختبر بسهولة ويسر، بحيث يمكن استنباط النتائج النهائية منها خلال زمن قصير، بينما يتعذر ذلك من التجارب النفسية والاجتماعية؛ لأن إخضاع النفس والمجتمع للتجربة ليس بالسهولة نفسه، كما أن التجربة النفسية والاجتماعية تتطلب فترة رصد طويلة، وربما استغرقت أجيالا عديدة [1] . [ ص: 62 ] هـذا إلى جانب ما قد تمر به الظاهرة الاجتماعية من صعوبات أو نكبات خلال مسيرتها الطويلة، مما يؤدي إلى انحرافها وتغيير معطياتها، ومن ثم يلتبس على من يدرسها أمر الصرامة في السنن التي تخضع لها.

وربما كان هـذا هـو السبب في تركيز الآيات الكريمة على دعوة المؤمنين للسير في الأرض، والنظر في تاريخ الأمم الغابرة لاستنباط الدروس والعبر (أو السنن) من خلاله، على أساس أن التاريخ يمثل تجارب اجتماعية ونفسية واقعية، عرفت بداياتها وتطوراتها ونهاياتها، كما عرفت سائر الملابسات التاريخية التي أحاطت بها.. ومن ذلك قوله تعالى: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) (آل عمران: 137) وكثير من مثل هـذه الآيات التي سيرد التفصيل فيها لاحقا بإذن الله.. ومما لا ريب فيه أن الاعتبار بقصص الأمم الغابرة يغدو بلا فائدة لو لم تكن السنن التي تحكم حياة الأفراد والمجتمعات سننا ثابتة مطردة، يمكن أن تتكرر كلما توافرت شروطها، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها.

التالي السابق


الخدمات العلمية