الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
4 - السحر والسحر ( لغة ) : هـو كل أمر يخفي سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع.. وقد فصل بعض أهل العلم في أنواع السحر فذكروا منها: التمائم، والشعوذة، وتسخير الجن، واستخدام الأدوية والأبخرة، وغير ذلك من الأساليب، التي يلجأ إليها السحرة عادة.. ولا نريد أن ندخل في تفصيلات هـذه الأساليب، نظرا لطبيعة بحثنا [ ص: 100 ] هـذا من جهة، ونظرا لاختلاف العلماء حول حقيقة هـذه الأساليب، وتأثيرها من جهة أخرى.. لكن الذي نريد أن نناقشه الآن هـو تلك الحوادث من خداع البصر الذي يبدو خارقا للعادة التي تجري على أيدي بعض السحرة، سواء منهم من يفعلون ذلك بقصد الإمتاع في الحفلات وغيرها، أو الذين يفعلون ذلك لأغراض أخرى كالوقيعة بين الناس.. والظاهر من نصوص القرآن الكريم أن فعل السحرة لا يعدو أن يكون خداع بصر، ولنستمع إلى وصف الحق تبارك وتعالى لما جاء به سحرة فرعون، وهم أمهر السحرة على مر التاريخ: ( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) (طه: 65 - 66) وقوله تعالى: ( قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ) (الأعراف: 116 ) فلم يكن سحر السحرة إذن غير تخييل ( يخيل إليه من سحرهم.. ) ولم يكن غير خداع لأبصار المشاهدين ( سحروا أعين الناس.. ) .

والفرق كبير ما بين التخييل والوهم والخداع، وبين الحقيقة، وهذا ما أثبتته بقية القصة حين ألقى موسى عليه السلام عصاه ( وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هـي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ) (الأعراف: 117 - 118) . فإن ما جاء به موسى عليه السلام كان معجزة من الله عز وجل .. كان حقيقة لا وهما.. كان خرقا حقيقيا للسنن، فقد انقلبت العصا الجامدة إلى حية تدب على الأرض، وتتحرك وتبتلع السحرة وعصيهم ولما كان سحرة فرعون يعلمون طبيعة السحر، فإنهم لم يتمالكوا وهم يرون المعجزة إلا أن يخروا سجدا لله، ويعلنوا إيمانهم بما جاء به موسى؛ لأنهم - وهم أهل الصنعة - قد أيقنوا أن ما جاء به لا يمكن لبشر أن يأتي به، إلا أن يكون مؤيدا من الله، الذي خلق الخلائق وقدر السنن.. فهو وحده سبحانه القادر على خرقها، وأما السحرة فإن دأبهم التمويه والخداع. [ ص: 101 ]

ونلاحظ من خلال عرض هـذه الخوارق الخارجة عن مألوف البشر أنها ليست خوارق مطلقة، فهي غير قابلة للحدوث في كل زمان ومكان، بل هـي مقيدة بظروف..

فالمعجزات والإرهاصات مرتبطة بعصر النبوات، وما دام عصر النبوات قد اختتم ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا معجزات ولا إرهاص إذن بعد ذلك.

وأما السحر فإن أغلبه من باب التخييل والخداع، وهو لا يعبر عن خرق للسنة كما بينا آنفا.. وإن أحوال الذين يمارسون السحر لتدل على طبيعة أفعالهم، فالسحر لا يصنعه إلا الفساق والكفار، وأما المؤمنون فهم أبعد الناس عن فعل السحر، وبخاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر منه، وعده من الكبائر.

و تبقى ( الكرامة ) هـي الخارقة الوحيدة، التي قد يداخلها بعض الالتباس، إذ قد يلجأ بعض أصحاب النفوس الضعيفة، والنوايا الخبيثة، لادعاء ظهور بعض الكرامات على أيديهم، بقصد الوصول إلى مكاسب معينة، أو تحقيق مآرب شخصية دنيئة، وهذا ما حصل في العصور الإسلامية المتأخرة في صفوف غلاة الطرق الصوفية، وأصحاب الدعوات الباطنية الباطلة، وكثيرا ما نشاهد هـؤلاء يعقدون الجلسات الخاصة، ليعرضوا مهاراتهم في الإتيان بخوارق مختلفة، يدعون أنها كرامات من الله عز وجل .

والحقيقة أن العبد الصالح الذي يخصه الله عز وجل بكرامة من عنده، يغلب عليه أن يداري هـذه الكرامات عن غيره من الناس، مخافة أن يحبط الله عمله، فهو أشد حياء بالكرامة من البنت في خدرها، كما يقولون، بينما نجد أدعياء الكرامات يفاخرون بها، ويذيعون أخبارها للقريب والبعيد لكي يحققوا من وراء ذلك أغراضهم.. [ ص: 102 ] ويحتم علينا هـذا البيان أننا كلما رأينا خارقة من الخوارق أو سمعنا خبرا من أخبارها أن نعرضها على كتاب الله، وسنة رسوله، فإن وافقهما قبلناها منه، وعددناها كرامة، وإن وجدناه غير ذلك لم نقبل منه، وعددناها نوعا من السحر أو الاستدراج..

ونخلص من حديثنا عن الخوارق إلى أنها تعد استثناء لا قاعدة؛ لأن القاعدة في سنن الله في الخلق هـي الثبات، وأما هـذه الخوارق فهي استثناءات.. ولهذا ينبغي أن نضعها في موضعها الصحيح من حركة الكون، لا أن نجعلها الأصل في تعاملنا مع الكون من حولنا.. ونحن مستخلفون في الأرض بناء على هـذا الأصل، وأعني به ثبات السنن على الهيئة التي قدرها الله عز وجل ، يوم أن خلق السماوات والأرض، كما أننا محاسبون على تصرفاتنا بالعالم المحيط بنا، بناء على هـذا الأصل كذلك..

ويجب أن نؤمن يقينا أننا لا يمكن أن نستفيد من ذخائر هـذا العالم أو نسخرها في شئوننا إلا من خلال معرفتنا الدقيقة بالسنن، التي تحكمها، وأما التطلع إلى الخوارق، والتعامل مع الأحداث من خلالها فلا يجدي فتيلا؛ لأنها كما قدمنا ليست هـي القاعدة في بناء هـذا العالم، وليست هـي التي تحكم مسيرة الحضارة والبناء، وإنما يحكم ذلك الجهد الواعي، والبحث الدءوب، الذي يهدف إلى كشف سنن الله في الخلق، والعمل على تسخيرها فيما يستهدف خير البشرية وصلاحها. [ ص: 103 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية