الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) .

الحلال : مقابل الحرام ومقابل المحرم . يقال شيء حلال : أي سائغ الانتفاع به ، وشيء حرام : ممنوع منه ، ورجل حلال : أي ليس بمحرم . قيل : وسمي حلالا ; لانحلال عقد المنع منه ، والفعل منه حتى يحل ، بكسر الحاء في المضارع ، على قياس الفعل المضاعف اللازم . ويقال : هذا حل ، أي حلال ، ويقال : حل بل على سبيل التوكيد ، وحل بالمكان : نزل به ، ومضارعه جاء بضم الحاء وكسرها ، وحل عليه الدين : حان وقت أدائه . الخطوة ، بضم الخاء : ما بين قدمي الماشي من الأرض ، والخطوة ، بفتحها : المرة من المصدر . يقال : خطا يخط خطوا : مشى . ويقال : هو واسع الخطو . فالخطوة بالضم ، عبارة عن المسافة التي يخطو فيها ، كالغرفة والقبضة ، وهما عبارتان عن الشيء المعروف والمقبوض ، وفي جمعها بالألف والياء لغى ثلاث : إسكان الطاء كحالها في المفرد ، وهي لغة تميم وناس من قيس ، وضمة الطاء اتباعا لضمة الخاء ، وفتح الطاء . ويجمع تكسيرا على خطى ، وهو قياس مطرد في فعلة الاسم . الفحشاء : مصدر كالبأساء ، وهو فعلاء من الفحش ، وهو قبح المنظر ، ومنه قول امرئ القيس :


وجيد كجيد الريم ليس بفاحش إذا هي نصته ولا بمعطل



ثم توسع فيه حتى صار يستعمل فيما يستقبح من المعاني . ألفى : وجد ، وفي تعديها إلى مفعولين خلاف ، ومن منع جعل الثاني حالا ، والأصح كونه مفعولا لمجيئه معرفة ، وتأويله على زيادة الألف واللام على خلاف الأصل . النعيق : دعاء الراعي وتصويته بالغنم ، قال الشاعر :


فانعق بضأنك يا جرير فإنما     منتك نفسك في الخلاء ضلالا



ويقال : نعق المؤذن ، ويقال : نعق ينعق نعيقا ونعاقا ونعقا ، وأما نغق الغراب ، فبالغين المعجمة . وقيل أيضا : يقال بالمهملة في الغراب . النداء : مصدر نادى ، كالقتال مصدر قاتل ، وهو بكسر النون ، وقد تضم . قيل : وهو مرادف للدعاء ، وقيل : مختص بالجهر ، وقيل : بالبعد ، وقيل : بغير المعين . ويقال : فلان أندى صوتا من فلان ، أي أقوى وأشد وأبعد مذهبا . اللحم : معروف . يقال : لحم الرجل لحامة ، فهو لحيم : ضخم . ولحم يلحم ، فهو لحم : اشتاق إلى اللحم . ولحم الناس يلحمهم : أطعمهم اللحم ، فهو لاحم . وألحم ، فهو ملحم : كثر عنده اللحم . الخنزير : حيوان معروف ، ونونه أصلية ، فهو فعليل . وزعم بعضهم أن نونه زائدة ، وأنه مشتق من خزر العين ; لأنه كذلك ينظر . يقال : تخازر الرجل : ضيق جفنه ليحدد النظر ، والخزر : ضيق العين وصغرها ، ويقال : رجل أخزر : بين الخزر . وقيل : هو النظر بمؤخر العين ، فيكون كالتشوش . الإهلال : رفع الصوت ، ومنه الإهلال بالتلبية ، ومنه سمي الهلال لارتفاع الصوت [ ص: 478 ] عند رؤيته ، ويقال : أهل الهلال واستهل ، ويقال : أهل بكذا : رفع صوته . قال ابن أحمر :


يهل بالفدفد ركباننا     كما يهل الراكب المعتمر



وقال النابغة :


أو درة صدفية غواصها     بهج متى تره يهل ويسجد



ومنه : إهلال الصبي واستهلاله ، وهو صياحه عند ولادته . وقال الشاعر :


يضحك الذئب لقتلى هذيل     وترى الذئب لها يستهل



البطن : معروف ، وجمعه على فعول قياس ، ويجمع أيضا على بطنان ، ويقال : بطن الأمر يبطن ، إذا خفي . وبطن الرجل ، فهو بطين : كبر بطنه . والبطنة : امتلاء البطن بالطعام . ويقال : البطنة تذهب الفطنة .

( ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) : هذا ثاني نداء وقع في سورة البقرة بقوله : " يا أيها الناس " ، ولفظه عام . قال الحسن : نزلت في كل من حرم على نفسه شيئا لم يحرمه الله عليه . وروى الكلبي ومقاتل وغيرهما : أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب ، قاله النقاش . وقيل : في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة . قيل : وبني مدلج ، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام ، وحرموا البحيرة والسوائب والوصيلة والحام . فإن صح هذا ، كان السبب خاصا واللفظ عاما ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ( ومناسبة هذا لما قبله ) ، أنه لما بين التوحيد ودلائله ، وما للتائبين والعاصين ، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الكافر والمؤمن ، ليدل أن الكفر لا يؤثر في قطع الإنعام . وقال المروزي : لما حذر المؤمنين من حال من يصير عمله عليه حسرة ، أمرهم بأكل الحلال ; لأن مدار الطاعة عليه . " كلوا " : أمر إباحة وتسويغ ; لأنه تعالى هو الموجد للأشياء ، فهو المتصرف فيها على ما يريد .

" مما في الأرض " من : تبعيضية ، وما : موصولة ، ومن : في موضع المفعول ، نحو : أكلت من الرغيف ، و " حلالا " : حال من الضمير المستقر في الصلة المنتقل من العامل فيها إليه . وقال مكي بن أبي طالب : " حلالا " : نعت لمفعول محذوف تقديره " شيئا حلالا " ، قال ابن عطية : وهذا بعيد ولم يبين وجه بعده ، وبعده أنه مما حذف الموصوف ، وصفته غير خاصة ; لأن الحلال يتصف به المأكول وغير المأكول . وإذا كانت الصفة هكذا ، لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه . وأجاز قوم أن ينتصب حلالا على أنه مفعول " بكلوا " ، وبه ابتدأ الزمخشري . ويكون على هذا الوجه " من " لابتداء الغاية متعلقة بكلوا ، أو متعلقة بمحذوف ، فيكون حالا ، والتقدير : كلوا حلالا مما في الأرض . فلما قدمت الصفة صارت حالا ، فتعلقت بمحذوف ، كما كانت صفة تتعلق بمحذوف . وقال ابن عطية : مقصد الكلام لا يعطي أن تكون حلالا مفعولا بكلوا ، تأمل . انتهى .

" طيبا " : انتصب صفة لقوله : " حلالا " ، إما مؤكدة ; لأن معناه ومعنى " حلالا " واحد ، وهو قول مالك وغيره ، وإما مخصصة ; لأن معناه مغاير لمعنى الحلال وهو المستلذ ، وهو قول الشافعي وغيره . ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث . وقيل : انتصب طيبا على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي أكلا طيبا ، وهو خلاف الظاهر . وقال ابن عطية : ويصح أن يكون طيبا حالا من الضمير في كلوا تقديره : مستطيبين ، وهذا فاسد في اللفظ والمعنى . أما اللفظ فلأن طيبا اسم فاعل وليس بمطابق للضمير ; لأن الضمير جمع ، وطيب مفرد ، وليس طيب بمصدر ، فيقال : لا يلزم المطابقة . وأما المعنى : فلأن طيبا مغاير لمعنى مستطيبين ; لأن الطيب من صفات المأكول ، والمستطيب من صفات الآكل . تقول : طاب لزيد الطعام ، ولا تقول : طاب زيد الطعام ، في معنى استطابه . وقال الزمخشري في قوله : " طيبا " : طاهرا من كل شبهة . وقال السجاوندي : " حلالا " مطلق الشرع ، " طيبا " مستلذ الطبع . وقال في [ ص: 479 ] المنتخب ما ملخصه : الحلال : الذي انحلت عنه عقدة الخطر ، إما لكونه حراما لجنسه كالميتة ، وإما لا لجنسه كملك الغير ، إذ لم يأذن في أكله . والطيب لغة الطاهر ، والحلال يوصف بأنه طيب ، كما أن الحرام يوصف بأنه خبيث ، والأصل في الطيب ما يستلذ ، ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه ; لأن النجس تكرهه النفس ، والحرام لا يستلذ ; لأن الشرع منع منه . انتهى . والثابت في اللغة : أن الطيب هو الطاهر من الدنس . قال :


والطيبون معاقد الأزر

:

وقال آخر :


ولي الأصل الذي في مثله     يصلح الآبر زرع المؤتبر
طيبو الباءة سهل ولهم     سبل إن شئت في وحش وعر

وقال الحسن : الحلال الطيب : هو ما لا يسئل عنه يوم القيامة . وقال ابن عباس : الحلال الذي لا تبعة فيه في الدنيا ولا وبال في الآخرة . وقيل : الحلال ما يجوزه المفتي ، والطيب ما يشهد له القلب بالحل . وقد استدل من قال بأن الأصل في الأشياء الحظر بهذه الآية ; لأن الأشياء ملك الله تعالى ، فلا بد من إذنه فيما يتناول منها ، وما عدا ما لم يأذن فيه يبقى على الحظر . وظاهر الآية أن ما جمع الوصفين الحل والطيب مما في الأرض ، فهو مأذون في أكله . إما تملكه والتصدق به ، أو ادخاره ، أو سائر الانتفاعات به غير الأكل ، فلا تدل عليه الآية . فإما أن يجوز ذلك بنص آخر ، أو إجماع عند من لا يرى القياس ، أو بالقياس على الأكل عند من يقول بالقياس .

( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) وقرأ ابن عامر والكسائي وقنبل وحفص وعباس ، عن أبي عمرو والبرجمي ، عن أبي بكر : بضم الخاء والطاء وبالواو . وقرأ باقي السبعة : بضم الخاء وإسكان الطاء وبالواو . وقرأ أبو السمال : خطوات ، بضم الخاء وفتح الطاء وبالواو . وقد تقدم أن هذه لغى ثلاث في جمع خطوة . ونقل ابن عطية والسجاوندي أن أبا السمال قرأ : خطوات ، بفتح الخاء والطاء وبالواو ، جمع خطوة ، وهي المرة من الخطو . وقرأ علي وقتادة والأعمش وسلام : خطؤات ، بضم الخاء والطاء والهمزة ، واختلف في توجيه هذه القراءة ، فقيل : الهمزة أصل ، وهو من الخطأ جمع خطأة ، إن كان سمع ، وإلا فتقديرا . وممن قال إنه من الخطأ أبو الحسن الأخفش ، وفسره مجاهد خطاياه ، وتفسيره يحتمل أن يكون فسر بالمرادف ، أو فسر بالمعنى . وقيل : هو جمع خطوة ، لكنه توهم ضمة الطاء أنها على الواو فهمز ; لأن مثل ذلك قد يهمز . قال معناه الزمخشري : والنهي عن اتباع خطوات الشيطان كناية عن ترك الاقتداء به ، وعن اتباع ما سن من المعاصي . يقال : اتبع زيد خطوات عمرو ووطئ على عقبيه ، إذ سلك مسلكه في أحواله . قال ابن عباس : خطواته أعماله . وقال مجاهد : خطاياه . وقال السدي : طاعته . وقال أبو مجلز : النذور في المعاصي . وقيل : ما ينقلهم إليه من معصية إلى معصية ، حتى يستوعبوا جميع المعاصي ، مأخوذ من خطو القدم من مكان إلى مكان . وقال الزجاج وابن قتيبة : طرقه . وقال أبو عبيدة : محقرات الذنوب . وقال المؤرخ آثاره ، وقال عطاء : زلاته ، وهذه أقوال متقاربة المعنى صدرت من قائلها على سبيل التمثيل . والمعنى بها كلها النهي عن معصية الله ، وكأنه تعالى لما أباح لهم الأكل من الحلال الطيب ، نهاهم عن معاصي الله وعن التخطي إلى أكل الحرام ; لأن الشيطان يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة ، فيزين بذلك ما لا يحل ، فزجر الله عن ذلك . والشيطان هنا إبليس ، والنهي هنا عن اتباع كل فرد فرد من المعاصي ، لا أن ذلك يفيد الجمع ، فلا يكون نهيا عن المفرد .

( إنه لكم عدو مبين ) : تعليل لسبب هذا التحذير من اتباع الشيطان ; لأن من ظهرت عداوته واستبانت ، فهو جدير بأن لا يتبع في شيء وأن يفر منه ، فإنه ليس له فكر إلا في إرداء عدوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية