( إنما يأمركم بالسوء والفحشاء ) : لما أخبر أنه عدو ، أخذ يذكر ثمرة العداوة وما نشأ عنها ، وهو أمره بما ذكر . [ ص: 480 ] وقد تقدم الكلام في " إنما " في قوله : ( إنما نحن مصلحون ) . وفي الخلاف فيها : أتفيد الحصر أم لا ؟ وأمر الشيطان ، إما بقوله في زمن الكهنة وحيث يتصور ، وإما بوسوسته وإغوائه . فإذا أطيع ، نفذ أمره بالسوء ، أي بما يسوء في العقبى . وقال : السوء ما لا حد له . والفحشاء ، قال ابن عباس : هي الزنا . وقال السدي : كل ما بلغ حدا من الحدود ; لأنه يتفاحش حينئذ . وقيل : ما تفاحش ذكره . وقيل : ما قبح قولا أو فعلا . وقال ابن عباس : ما لا يعرف في شريعة ولا سنة . وقال طاوس عطاء : هي البخل .
( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ، قال : يريد به ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوه ، وجعلوه شرعا . وقال الطبري : هو قولهم هذا حلال وهذا حرام بغير علم ، ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله مما لا يجوز عليه . انتهى . قيل : وظاهر هذا تحريم القول في دين الله بما لا يعلمه القائل من دين الله ، فيدخل في ذلك الرأي والأقيسة والشبهية والاستحسان . قالوا : وفي هذه الآية إشارة إلى الزمخشري . قال ذم من قلد الجاهل واتبع حكمه : فإن قلت : كيف كان الشيطان آمرا مع قوله : ( الزمخشري ليس لك عليهم سلطان ) ؟ قلت : شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر ، كما تقول : أمرتني نفسي بكذا ، وتحثه رمز إلى أنكم فيه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه ، ولذلك قال : ( ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ) ( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) . وقال الله تعالى : ( إن النفس لأمارة بالسوء ) لما كان الإنسان يطعمها ويعطيها ما اشتهت . انتهى كلامه .
( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ) : الضمير في لهم عائد على كفار العرب ; لأن هذا كان وصفهم ، وهو الاقتداء بآبائهم ، ولذلك قالوا لأبي طالب ، حين احتضر : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ ذكروه بدين أبيه ومذهبه . وقال : نزلت في ابن عباس اليهود ، فعلى هذا يكون الضمير عائدا على غير مذكور ، وهم أشد الناس اتباعا لأسلافهم . وقيل : هو عائد على " من " ، من قوله : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ) ، وهو بعيد . وقال : هو عائد على الناس من قوله : ( الطبري ياأيها الناس كلوا ) وهذا هو الظاهر ، ويكون ذلك من باب الالتفات ، وحكمته أنهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجب من فعله ، حيث دعي إلى اتباع شريعة الله التي هي الهدى والنور . فأجاب باتباع شريعة أبيه ، وكأنه يقال : هل رأيتم أسخف رأيا وأعمى بصيرة ممن دعي إلى اتباع القرآن المنزل من عند الله ، فرد ذلك وأضرب عنه ؟ وأثبت أنه يتبع ما وجد عليه أباه ؟ وفي هذا دلالة على ذم التقليد ، وهو قبول الشيء بلا دليل ولا حجة . وحكى ابن عطية أن الإجماع منعقد على إبطاله في العقائد . وفي الآية دليل على أن ما كان عليه آباؤهم هو مخالف لما أنزل الله ، فاتباع أبنائهم لآبائهم تقليد في ضلال . وفي هذا دليل على أن دين الله هو اتباع ما أنزل الله ; لأنهم لم يؤمروا إلا به . والمراد بقوله : " وإذا " ، التكرار . وبنى قيل لما لم يسم فاعله ; لأنه أخصر ; لأنه لو ذكر الآمرون لطال الكلام ; لأن الآمر بذلك هو الرسول ومن يتبعه من المؤمنين . وفي قوله : ( ما أنزل الله ) إعلام بتعظيم ما أمروهم باتباعه أن نسب إنزاله إلى الله الذي هو المشرع للشرائع ، فكان ينبغي أن يتلقى بالقبول ولا يعارض باتباع آبائهم رءوس الضلالة . وأدغم لام بل في نون نتبع ، وأظهر ذلك غيره . وبل هنا عاطفة جملة على جملة محذوفة ، التقدير : لا نتبع ما أنزل الله ، ( الكسائي بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) . ولا يجوز أن يعطف على قوله : ( اتبعوا ما أنزل الله ) . وعليه متعلق بقوله : " ألفينا " ، وليست هنا متعدية إلى اثنين ; لأنها بمعنى وجد التي بمعنى أصاب .
( أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) : الهمزة للاستفهام المصحوب بالتوبيخ والإنكار والتعجب من حالهم ، وأما الواو بعد الهمزة ، فقال : الواو للحال ، ومعناه : أيتبعونهم ، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب ؟ وقال الزمخشري ابن عطية : الواو لعطف جملة كلام على [ ص: 481 ] جملة ; لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا : نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون ، فقرروا على التزام هذا ، أي هذه حال آبائهم . انتهى كلامه . وظاهر قول أن الواو للحال ، مخالف لقول الزمخشري ابن عطية إنها للعطف ; لأن واو الحال ليست للعطف .
والجمع بينهما أن هذه الجملة المصحوبة بلو في مثل هذا السياق ، هي جملة شرطية . فإذا قال : اضرب زيدا ولو أحسن إليك ، المعنى : وإن أحسن ، وكذلك : اعطوا السائل ولو جاء على فرس ; ردوا السائل ولو بشق تمرة ، المعنى فيها : وإن . وتجيء لو هنا تنبيها على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها ، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعل ، ولتدل على أن المراد بذلك وجود الفعل في كل حال ، حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعل . ولذلك لا يجوز : اضرب زيدا ولو أساء إليك ، ولا أعطوا السائل ولو كان محتاجا ، ولا ردوا السائل ولو بمائة دينار . فإذا تقرر هذا ، فالواو في " ولو " في المثل التي ذكرناها عاطفة على حال مقدرة ، والعطف على الحال حال ، فصح أن يقال : إنها للحال من حيث أنها عطفت جملة حالية على حال مقدرة . والجملة المعطوفة على الحال حال ، وصح أن يقال : إنها للعطف من حيث ذلك العطف ، والمعنى : والله أعلم إنكار اتباع آبائهم في كل حال ، حتى في الحالة التي لا تناسب أن يتبعوا فيها ، وهي تلبسهم بعدم العقل وعدم الهداية . ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على لو ، إذا كانت تنبيها على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها . وإن كانت الجملة الواقعة حالا فيها ضمير يعود على ذي الحال ; لأن مجيئها عارية من الواو يؤذن بتقييد الجملة السابقة بهذه الحال ، فهو ينافي استغراق الأحوال حتى هذه الحال . فهما معنيان مختلفان ، والفرق ظاهر بين : أكرم زيدا لو جفاك ، أي إن جفاك ، وبين أكرم زيدا ولو جفاك . وانتصاب شيئا على وجهين : أحدهما : على المفعول به فعم جميع المعقولات ; لأنها نكرة في سياق النفي فتعم ، ولا يمكن أن يكون المراد نفي الوحدة فيكون المعنى لا يعقلون شيئا بل أشياء . والثاني : أن يكون منصوبا على المصدر ، أي شيئا من العقل ، وإذا انتفى انتفى سائر العقول ، وقدم نفي العقل ; لأنه الذي تصدر عنه جميع التصرفات ، وأخر نفي الهداية ; لأن ذلك مترتب على نفي العقل ; لأن الهداية للصواب هي ناشئة عن العقل ، وعدم العقل عدم لها .