الباب الثاني فيما تثبت به السرقة
تثبت بثلاث حجج ، إحداها : ، فإذا اليمين المردودة ، فلا شيء عليه ، وإن نكل ، ردت اليمين على المدعي ، فإذا حلف ، وجب المال والقطع ، هكذا نقله الإمام عن الأصحاب ، وكذا ذكره ادعى عليه سرقة توجب القطع ، فأنكر وحلف الغزالي وإبراهيم المروذي ؛ لأن اليمين المردودة كالإقرار وكالبينة ، وكلاهما يوجب القطع ، والذي ذكره صاحبا " الشامل " و " البيان " وغيرهما أنه لا يثبت بها القطع ؛ لأنه حق الله تعالى ، فأشبه ما لو قال : أكره أمتي على الزنى ، فحلف المدعي بعد نكول المدعى عليه ، يثبت المهر دون حد الزنى .
قلت : صحح الرافعي في " المحرر " الأول . والله أعلم .
الحجة الثانية : ، فإذا أقر بسرقة توجب القطع ، أجري عليه حكمها ، ولا يشترط الإقرار ، فلو أقر ثم رجع ، فالمذهب أنه لا يقبل في المال ، وأنه يقبل في سقوط القطع ، فلو رجع بعد قطع بعض اليد ، سقط الباقي ، فإن كان يرجى برؤه ، فذاك وإلا فللمقطوع قطع الباقي لئلا يتأذى به ، ولا يلزم الإمام ذلك . ولو تكرير الإقرار ، سقط القطع دون الآخر ، والرجوع عن الإقرار بقطع الطريق ، كالرجوع عن الإقرار بالسرقة ، ولو أقر اثنان بسرقة نصابين ، ثم رجع أحدهما ، فالمذهب سقوط الحد دون المهر . أقر بإكراه أمة على الزنى ، ثم رجع
[ ص: 144 ] فرع
إذا سرقة توجب القطع ، فهل يقطع في الحال ، أم ينتظر حضور زيد ومطالبته ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني ؛ لأنه ربما حضر ، وأقر أنه كان أباحه المال ، فيسقط الحد وإن كذبه السارق ، والحد يسقط بالشبهة ، فتأخيره أولى ، ولو بإكراه جارية غائب على الزنى فوجهان ، أصحهما : يحد للزنى ولا يؤخر ؛ لأنه لا يتوقف على طلبه ، ولو حضر وقال : كنت أبحتها له ، لم يسقط الحد ، وقال أقر ابتداء من غير تقدم دعوى بأنه سرق من زيد الغائب ابن سريج : يؤخر لاحتمال أنه يقر بأنه وقف عليه تلك الجارية ، قال الإمام : وعلى الأول لو قال المالك : كنت بعتها ، أو وهبتها ، وأنكر المقر ، ينبغي أن لا يسقط الحد ، وعلى قياسه ينبغي أن لا يسقط الحد إذا أقر بوقف الجارية ، وكذبه المقر .
قلت : ليس الوقف كالبيع ، فإنه يصح بلا قبول على المختار . والله أعلم .
وإذا قلنا : لا يقطع حتى يحضر الغائب ، فهل يحبس ؟ فيه أوجه ، أحدها : نعم ، كمن أقر بقصاص لغائب أو صبي ، والثاني : إن قصرت المسافة وتوقع قدومه على قرب ، حبس ، وإلا فلا ، والثالث : إن كانت العين تالفة ، حبس للغرم ، وإن كانت باقية ، أخذت منه ، ثم يفرق بين طول المسافة وقصرها ، ولو أقر بغصب مال غائب ، لم يحبس ؛ لأن الحاكم لا مطالبة له بمال الغائب .
فرع
لو ، قطع وفي قبوله في المال أقوال ، أظهرها : لا يقبل ، والثاني : يقبل ، والثالث : إن كان المال في يده ، قبل ، وإن [ ص: 145 ] تلف ، فلا ، والرابع : عكسه ، هذا إذا كان المال في يده ، أما إذا كان في يد السيد ، أو أجنبي ، فلا يقبل إقراره فيه بلا خلاف ، ولو أقر عبد بسرقة موجبة للقطع ، لم يقبل بلا خلاف إلا أن يصدقه سيده . أقر بسرقة دون النصاب
فرع
متى رفع إلى مجلس القضاء ، واتهم بما يوجب عقوبة لله تعالى ، فللقاضي أن يعرض له بالإنكار ، ويحمله عليه ، فلو أقر بذلك ابتداء ، أو بعد الدعوى ، فهل يعرض له بالرجوع ؟ فيه أوجه ، الصحيح الذي قطع به عامة الأصحاب : نعم ، للحديث الصحيح لماعز - رضي الله عنه - بعد إقراره بالزنى : " لعلك قبلت " والثاني : لا ، ونقله الإمام عن الجمهور ، وليس كما قال ، والثالث : إن لم يكن عالما بجواز الرجوع ، عرض له ، وإلا فلا ، فعلى الأول هل يستحب للقاضي التعريض ؟ وجهان ، أحدهما : نعم ، للحديث ، وأصحهما : لا ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك التعريض في أكثر الأوقات . والتعريض في الزنى : لعلك فاخذت ، أو لمست ، أو قبلت . وفي شرب الخمر : لعلك لم تعلم أن ما شربته مسكر . وفي السرقة : لعلك غصبت ، أو أخذت بإذن المالك ، أو من غير حرز ونحوها ، ولا يحمله القاضي على الرجوع تصريحا بأن يقول : ارجع عن الإقرار ، أو اجحده ، وإذا ثبت الحد بالبينة لا يحمله على الإنكار ، وأما حقوق الآدمي ، فلا يعرض له بالرجوع عن الإقرار بها ، حتى لا يعرض في السرقة بما يسقط الغرم ، إنما يسعى في دفع القطع ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وجهان . وهل للحاكم أن يعرض للشهود بالتوقف في حدود الله تعالى ؟
قلت : أصحهما : نعم إن رأى المصلحة في الستر ، وإلا فلا . والله أعلم .
[ ص: 146 ] فرع
قال الإمام : في الحديث " " : هذا دليل على أنه من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله ، قال : وكان شيخي يقطع به ، وفيه احتمال إذا قلنا : الحد لا يسقط بالتوبة . لا يجب على من قارف موجب حد إظهاره للإمام
قلت : الصواب : الجزم بأنه لا يجب الإظهار لقصة ماعز ، وإنما لا يسقط الحد بالتوبة على قول في ظاهر الحكم ، وأما فيما بينه وبين الله تعالى ، . والله أعلم . فالتوبة تسقط أثر المعصية
الحجة الثالثة : ، فيثبت القطع بشهادة رجلين ، ولا يثبت برجل وامرأتين ، فلو الشهادة ، ثبت المال ولا يثبت القطع ، كما لو شهد رجل وامرأتان بالسرقة ، أو شاهد وحلف المدعي معه ، ثبت المال دون الطلاق والعتق ، وقيل : في علق الطلاق أو العتق على غصب أو سرقة ، فشهد رجل وامرأتان على الغصب أو السرقة قولان ، والمذهب الأول ، ولا تقبل في السرقة شهادة مطلقة لاختلاف المذاهب فيها ، فيشترط بيان السارق بالإشارة إليه إن كان حاضرا ، أو ذكر اسمه ونسبه بحيث يتميز إن كان غائبا ، ويكفي عند حضوره أن يقول : سرق هذا ، وحكى ثبوت المال في السرقة وجها أنه يشترط أن يقول ، هذا بعينه ، وليس بشيء ، ويشترط أن يبين المسروق والمسروق منه ، وكون السرقة من حرز بتعيين الحرز أو صفته . وعن ابن كج وغيره ، أن الشاهد يقول أيضا : ولا أعلم له فيه شبهة . قال صاحب " الشامل " : وليكن هذا تأكيدا ؛ لأن الأصل عدم الشبهة ، ويشترط أن تتفق شهادة الشاهدين ، فلو القاضي أبي الطيب ، أو أحدهما بسرقة كبش أبيض ، والآخر بكبش أسود ، فهما شهادتان على سرقتين [ ص: 147 ] مختلفتين ، فلا قطع ، وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما ، فيغرمه ، ولو شهد أحدهما أنه سرق بكرة ، والآخر أنه سرق عشية ، فالبينتان متعارضتان ، فلا يحكم بواحدة منهما ، وفي الصورة الأولى لا يقال : متعارضتان ؛ لأن الحجة لم تتم ، فلو لم تتوارد الشهادتان على معين ، بل قال بعضهم : سرق كبشا غداة ، وقال بعضهم : سرق كبشا عشية ، فإن كان الذي شهد واحدا وواحدا ، فلا قطع ، وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما ، ويأخذ الغرم ، أو معهما ويأخذ غرم ما شهدا به جميعا ، وإن شهد اثنان واثنان ، وجب القطع ، وغرم ما شهد به هذان وهذان ، لكمال الحجتين ، ولو شهد واحد بسرقة كبش ، وآخر بسرقة كبشين ، ثبت الواحد وتعلق به القطع إن بلغ نصابا ، ولو شهد اثنان أنه سرق كذا غدوة ، وشهد آخران أنه سرق عشية ، لم يقطع ويغرم ثمن دينار ، وللمشهود له أن يحلف مع شاهد الربع ويستحقه ، ولو شهد اثنان بسرقته وقالا : قيمته ربع ، وشهد آخران بسرقته ، وقالا : قيمته ثمن ، لم يقطع ، وللمشهود له الثمن ، ولو شهد أحدهما بسرقة ثوب أبيض قيمته ربع ، والآخر بسرقة ثوب أسود قيمته ثمن ، فلا قطع ، ولا يثبت بهما شيء لاختلافهما ، وله أن يحلف مع أحدهما ، وإن شهد اثنان واثنان تمت الشهادتان ، فيقطع ويغرم الربع والثمن معا . شهد واحد بسرقة ثوب قيمته ربع دينار ، وشهد آخر بسرقة ذلك الثوب ، وقومه بثمن دينار
فرع
كما يشترط يشترط في الإقرار بها ، فلا قطع على من أقر بالسرقة مطلقا ؛ لأنه قد يظن غير السرقة سرقة ، واسم السرقة يقع على ما يقطع به وعلى غيره ، وفي الشهادة على الزنى يشترط التفصيل ، وكذا في الإقرار به على الأصح . التفصيل في الشهادة بالسرقة
[ ص: 148 ] فرع
الشهادة بالسرقة إن ترتبت على دعوى المسروق منه أو وكيله ، فذاك ، وإن وجهان ، أصحهما : نعم ، فعلى هذا إن كان المسروق منه غائبا ، فالنص أنه لا يقطع حتى يحضر الغائب ، ونص فيما لو شهد أربعة بالزنى بجارية غائب أنه يحد ، ولا ينتظر حضور الغائب ، فقيل : قولان فيهما ، وقيل : ينتظر المالك في الصورتين ، وغلطوا ناقل نص الزنى أو تأولوه ، والمذهب تقرير النصين ، والفرق أن حد الزنى لا يسقط بإباحة الوطء ، وحد السرقة يسقط بإباحة المال ، فربما كان الغائب أباحه فانتظر اعترافه ، ولأن القطع متعلق حق الآدمي ، فإنه شرع حفظا لماله ، فاشترط حضوره ، فإن قلنا : لا يقطع ولا يحد في الحال ، فهل يحبس ؟ فيه الخلاف السابق فيمن أقر بسرقة مال غائب ، أو بالزنى بجارية غائب ، وأشار الإمام إلى أن الظاهر عند الأصحاب أنه يحبس لما يتعلق به من حق الله تعالى ، وإذا لم يقطع حتى حضر المالك ، فإن لم يطلب المال ، أو اعترف بما يسقط القطع ، فلا قطع ، وإن طلب ولم تظهر شبهة ، فإن قلنا : شهادة الحسبة مقبولة ، قطع ، وهل تجب إعادة الشهادة لثبوت المال ؟ وجهان ، أصحهما : نعم ؛ لأن شهادة الحسبة لا تقبل في الأموال ، والثاني : لا ، ويثبت الغرم تبعا ، وإن قلنا : غير مقبولة ، فلا بد من إعادة البينة للمال ، والأصح أنها لا تعاد للقطع . شهد الشهود على سبيل الحسبة ، فهل تقبل شهادتهم ؟
فرع
، قال سرق مال صبي أو مجنون : إن انتظرنا حضور الغائب واعتبرنا طلبه ، انتظر بلوغه وإفاقته ، وإلا قطعناه في الحال . ابن كج
[ ص: 149 ] فرع
إذا قلنا : ، فهل يستفصله القاضي سعيا في سقوط الحد ؟ فيه تردد للإمام . يسقط الحد بدعوى الملك
قلت : الأصح لا يستفصله ؛ لأنه إغراء له بادعاء الباطل . والله أعلم .