الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو مسح في الحضر ثم سافر أتم مسح مقيم ولو مسح مسافرا ثم أقام مسح مسح مقيم " .

                                                                                                                                            [ ص: 359 ] قال الماوردي : أما إذا ابتدأ بالمسح مسافرا ثم أقام مسح مسح مقيم يوما وليلة باتفاق في الحكم ، وإن كان مع اختلاف في العلة ، فالشافعي يجعل العلة فيه أن الإقامة أغلظ حاليه ، وأبو حنيفة يجعل العلة فيه أن الإقامة نهاية حاليه ، فأما إذا ابتدأ بالمسح مقيما ثم سافر فقد اختلفوا لاختلافهم في ذلك ، فمال الشافعي إلى أنه يمسح مسح مقيم : لأنه أغلظ حاليه ، وقال أبو حنيفة يمسح مسح مسافر : لأنها نهاية حاليه ، وتعلقا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن " وهذا مسافر ، ولأنه ماسح جمع بين حضر وسفر ، فوجب أنه يعتبر حاله بانتهائها كالمسافر ، إذا أقام .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم : " يمسح المقيم يوما وليلة " وهذا قد كان مقيما فلزمه حكم الإقامة ، ولأنه ماسح جمع بين حضر وسفر فوجب أن يغلب حكم الحضر على حكم السفر ، كالمسافر إذا أقام ، ولأنها عبادة تختلف بالحضر والسفر ، فوجب إذا أنشأها في الحضر ثم سافر أن يغلب حكم الحضر كالصلاة إذا افتتحها مقيما ثم سافر ، وفيما ذكرنا من الدلائل انفصال عن دلائلهم .

                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما ذكرنا فلا يخلو حال من جمع بين الحضر والسفر من أحد أمرين : إما أن يكون مقيما فيسافر أو يكون مسافرا فيقيم فأما الفصل الأول ، وهو أن يكون مقيما ثم يسافر فله أربعة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يسافر بعد لبس خفيه ، وقبل حدثه فله أن يمسح ثلاثا مسح مسافر لا يختلف المسح فيه ، لأن مجرد اللبس لا يتعلق به حكم .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يسافر بعد لبس خفيه ، وبعد حدثه ، وقبل مسحه فمذهب الشافعي يمسح ثلاثا مسح مسافر ، وأول زمان مسحه من وقت حدثه في الحضر ، وقال المزني يمسح يوما وليلة مسح مقيم ، لأن ابتداء مدة مسحه ، موجودة في الحضر والحدث كالمسح في اعتباره من زمان المسح ألا ترى لو أنه مر عليه بعد حدثه يوم وليلة ولم يمسح ، فقد انقضت المدة كما لو مسح ، وهذا الذي ذكره خطأ ، لما ذكرناه من أن صفة العبادة معتبرة بزمان الفعل ، لا بوقت العبادة كالصلاة في القصر والإتمام معتبرة بوقت فعله لا وقت وجوبها ، وكذا المسح ، وإذا كان ذلك كذلك فلا يخلو سفره بعد الحدث وقبل المسح من أن يكون قبل مضي وقت صلاة أو بعد مضي وقت صلاة ، فإن كان قبل مضي وقت صلاة [ ص: 360 ] مسح ثلاثا مسح مسافر ، وإن كان بعد مضي وقت صلاة ففيه لأصحابنا وجهان : أحدهما : وهو محكي عن أبي إسحاق أنه يمسح يوما وليلة مسح مقيم : لأن يقضي وقت الصلاة في الحضر في حكم فعلها في الحضر ، في وجوب الإتمام ، كذلك في المسح .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو محكي عن أبي علي بن أبي هريرة أنه يمسح ثلاثا مسح مسافر لأنه لم يبتدئ بالمسح إلا وهو مسافر .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يسافر بعد أن مسح على خفيه فيمسح يوما وليلة مسح مقيم وقد مضى خلاف أبي حنيفة فيها ، فلو كان قد أكمل مسح يوم وليلة في الحضر ، قبل سفره لم يكن له أن يمسح بعد في سفره شيئا لاستيفاء مسح الإقامة إلا أن يستأنف مسحا مبتدئا .

                                                                                                                                            والحالة الرابعة : أن يسافر ويشك هل مسح قبل سفره أم لا فينبغي أن يعمل على أغلظ حاليه ، وإن ابتدأ بالمسح مسافرا ، ثم أقام بالمسح قبل سفره فيمسح يوما وليلة ، مسح مقيم : فإن خالفه ومسح ثلاثا مسح مسافر أعاد ما صلى بالمسح في اليومين الآخرين ، لأنه صلى وهو شاك في صحة طهارته ، فلو صلى بالمسح يومين ، وهو على شكه ثم تيقن في الثالثة أنه مسافر قبل مسحه جاز له المسح في اليوم الثالث فيستوفي مدة المسح في السفر ، وعليه أن يعيد ما صلى بالمسح في اليوم الثاني : لأنه حين صلى كان شاكا في طهارته ، فصلى كمن صلى على شك من وضوئه ثم تيقن بعد فراغه أنه كان متوضئا أعاد .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية