[ ص: 350 ] باب المسح على الخفين
قال الشافعي : " أخبرنا الثقفي يعني عبد الوهاب عن المهاجر أبي مخلد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر ولبس خفيه أن يمسح عليهما "
قال الماوردي : وهذا صحيح ، والمسح على الخفين في الوضوء جائز ، وهو قول الصحابة وجمهور الناس وحكي عن طائفة من الإمامية والزيدية وعن مالك بن أنس في إحدى الروايات عنه أنهم منعوا من المسح على الخفين استدلالا بقوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين [ المائدة : 6 ] فكانت هذه الآية موجبة لتطهير الأعضاء الأربعة فلم يجز العدول عنها إلى حال دونها لما فيه من ترك الأمر بها ، وبما . فكان هذا الخبر مانعا من قبول الصلاة بالمسح على الخفين ، لأنه ليس بمثل وضوئه ، وقالوا : وقد روينا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ فغسل وجهه وذراعيه ومسح برأسه وغسل رجليه ، وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سأل أبا مسعود البدري عن المسح على الخفين ، فقال أبو مسعود : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عليهما ، فقال له علي كان ذلك قبل سورة المائدة لا بعدها ، فسكت أبو مسعود قالوا : فكان عن علي يرى ذلك منسوخا بسورة المائدة .
قالوا : وقد روي عن عائشة أنها أنكرت ذلك ، وقالت : لأن يقطع رجلاي بالموسى أحب إلي من المسح على الخفين .
[ ص: 351 ] قالوا : وقد روي أن عبد الله بن عمر رأى سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه فأنكر عليه ، قالوا : وقد روي عن جابر بن يزيد الجعفي أنه قال لم يختلف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أشياء :
أحدها : أن لا يقولوا في أبي بكر وعمر إلا خيرا .
والثاني : أن لا يمسحوا على الخفين .
والثالث : أن يجهروا بسم الله الرحمن الرحيم ، قالوا : ولأنكم أنكرتم المسح على الرجلين ، وذلك أقرب إلى تطهيرهما من المسح على الخفين ، فكيف وأنتم تنكرون ما هو أيسر وأقرب ، ويجيزون ما هو أعظم وأبعد ، قالوا : ولأنه لما امتنع في سائر الأعضاء أن يمسح على حائل دونه امتنع مثله في الرجلين ، قالوا : ولأن غسل الرجلين قد يجب في غسل الجنابة كوجوبه في الوضوء ، فلما لم يجز في الجنابة أن يعدل إلى مسح الخفين بدلا من غسلهما كذلك الوضوء .
ودليلنا على جوازه السنة المروية من الطرق المختلفة بالأسانيد الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه ، فمن ذلك ما روى دلهم بن صالح عن حجير بن عبد الله عن أبي بريدة عن أبيه النجاشي أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم خفين أسودين فلبسهما ثم توضأ ومسح عليهما ذكره أن أبو داود .
وروى بكير بن عامر البجلي عن عبد الرحمن بن أبي نعيم عن المغيرة بن شعبة ذكره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ، فقلت يا رسول الله نسيت ، فقال صلى الله عليه وسلم : " بل أنت نسيت بهذا أمرني ربي - جل وعز - أبو داود .
وروى بكير بن عامر عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي جريرا بال ثم توضأ فمسح على الخفين ، وقال ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح قالوا : إنما كان ذلك قبل نزول المائدة ، قال ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة . ذكره أن أبو داود .
وروى الشافعي عن سفيان عن الأعمش قال سمعت أبا وائل يقول سمعت حذيفة [ ص: 352 ] يقول : . رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما ، فذهبت أتنحى عنه ، فجذبني حتى كنت عند عقبه فلما فرغ توضأ ومسح على خفيه
وروى الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن عباد بن أبي زياد عن المغيرة بن شعبة تبوك ، قال المغيرة : فذهبت معه بماء فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسكبت عليه فغسل وجهه ثم ذهب يخرج يديه فلم يستطع من ضيق كم جبته فأخرجهما من تحت جبته فغسل يديه ومسح رأسه ومسح على الخفين فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن عوف قد صلى بهم ركعة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم الركعة التي بقيت ، فلما سلم قام " فأتم صلاته ففرغ الناس فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال قد أحسنتم . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لحاجته في غزوة
فدلت هذه الأخبار على جواز المسح على الخفين وأنه بعد نزول المائدة : لأن غزوة تبوك بعد نزول المائدة وكذلك إسلام جرير ، وقد قال الحسن البصري حدثني بالمسح على الخفين سبعون بدريا يعني : أن بعضهم شافهه وبعضهم روى له عنهم : لأن الحسن لم يلق سبعين بدريا .
فأما الجواب عن استدلالهم بالآية فمن وجهين :
أحدهما : أنها وإن أوجبت غسل الرجلين فالسنة جاءت بالرخصة في المسح على الخفين ، فكانت الآية دالة على غسل الرجلين إذا ظهرتا ، والسنة واردة في المسح على الخفين إذا لبسا .
والثاني : أن في الآية قراءتين بالنصب والجر فيحمل النصب على غسلهما إذا كانتا ظاهرتين ، ويحمل الجر على مسحهما إذا كانتا في الخفين ، فتكون الآية باختلاف قراءتيها دالة على الأمرين .
وأما الجواب عن قوله " فهو أنه محمول على أول الإسلام قبل الرخصة في المسح على الخفين ، على أنه قال ذلك وهو ظاهر القدمين ، ومن كان ظاهر القدمين لم يجزه المسح على الخفين ، وأما الجواب عما رووه من سؤال " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به علي أبا مسعود البدري فمن وجوه :
أحدها : أن الرواية الثابتة عن علي بالمسح على الخفين تمنع صحة الحديث .
والثاني : أنه سأله استخبارا عن زمان المسح لا إنكارا له .
[ ص: 353 ] والثالث : أنه إنما سأله ليظهر في الناس قلة ضبط أبي مسعود ، وضعف حزمه ، وسوء فهمه : لأن أبا مسعود كان ممن توقف عن بيعته .
وأما الجواب عن إنكار عائشة ، وقولها ما قالت فمن وجهين :
أحدهما : إنها لم تنكر المسح على الخفين ، وإنما كرهت بذلك السفر المحوج إلى المسح عليهما ، وقالت : لأن تقطع رجلاي فلا أسافر أحب إلي من السفر الذي يمسح فيه على الخفين .
والثاني : أن إنكارها مع ثبوت السنة واشتهارها وعمل الصحابة بها مدفوع ليس فيه دليل .
وأما الجواب عن إنكار ابن عمر على سعد بن أبي وقاص فقد قال سعد لابن عمر حين أنكر عليه سل أباك فسأله فقال أصاب السنة .
وأما الجواب عن قول جابر الجعفي لم يختلف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة فهو أن جابرا ضعيف ومتروك الحديث ، وقد مسح علي وابن عباس على أنه روي عنه أنه قال : وأن تمسحوا على الخفين فروى عنهم جوازه .
وأما الجواب عن قولهم إن كان المسح على الرجلين أوجب المنع من المسح على الخفين فهو أنه اعتراض على السنة في الموضعين ، ثم منتقض بالمسح على الجبائر فإنه يجوز ، وإن كان ظهور العضو يوجب غسله ويمنع من مسحه .
وأما الجواب عن استدلاله بسائر الأعضاء فهو أن السنة استثنت الرجلين في جواز الانتقال من غسلهما إلى الخفين دون سائر الأعضاء فلا يقاس على مخصوص ومنصوص .
وأما الجواب عن استشهادهم بالغسل من الجنابة فقد فرقت السنة بينهما فهو أن غسل ما جاوز القدمين لما وجب عليه في الجنابة ، ولم يمكن غسله في الخفين وجب خلعهما وإذا خلعهما ظهرت الرجلان فلم يجز المسح على الخفين مع ظهورهما ووجب غسلهما مع جميع البدن .