الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " أو ماء بل فيه خبز أو غير ذلك مما لا يقع عليه اسم الماء المطلق حتى يضاف إلى ما خالطه أو خرج منه فلا يجوز التطهر به " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد مضى الكلام في شرح المياه إلا أنا نختصره بقسم جامع نمهد به أصوله وتبتنى عليه فروعه ، فنقول : الماء ضربان مطلق ، ومضاف ، فالمطلق على حكم أصله في جواز استعماله في الحدث والنجس ، والمضاف على ضربين : إضافة تمنع من جواز استعماله ، وإضافة لا تمنع منه ، فأما التي لا تمنع من الاستعمال فإضافتان : إضافة قرار كماء البحر والزهر ، وإضافة صفة كماء عذب أو أجاج ، فأما المانعة من جواز الاستعمال فيتقسم إلى ثلاثة أقسام : إضافة حكم وإضافة جنس وإضافة غلبة .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول وهو إضافة الحكم فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما سلب الماء حكم التطهير دون الطهارة كالماء المستعمل فلا يجوز استعماله في حدث ولا نجس لما سنذكره من بعد .

                                                                                                                                            والثاني : ما سلبه حكم التطهير والطهارة كالماء النجس .

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني وهو إضافة الجنس كماء الورد والفواكه والبقول وكل معتصر من نبات فلا يجوز استعماله في حدث ، ولا نجس ، وخالفنا أبو حنيفة فيه فيجوز إزالة النجاسة به وقد مضى الكلام فيه معه .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو إضافة الغلبة فهو على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : غلبة مخالطة .

                                                                                                                                            والثاني : غلبة مجاورة .

                                                                                                                                            فأما غلبة المخالطة فهو أن يتغير الماء بمائع كالعسل أو مذرور كالزعفران ، وذلك مانع من جواز الاستعمال ، وأما غلبة المجاورة فهو أن يتغير الماء بجامد كالخشب أو متميز كالدهن ، وذلك غير مانع من جواز استعماله .

                                                                                                                                            [ ص: 53 ] فصل : فإذا تقرر ما ذكرنا من تقسيم المياه فجميع الفروع مرتب عليها ومستفاد منها فمن فروع هذا الفصل أن التمر والزبيب والبر والشعير إذا وقع في الماء فغيره ، فإن كان بحاله صحيحا لم ينحل في الماء فاستعماله جائز ، لأنه تغيير مجاورة كما لو تغير بالخشب وإن ذاب في الماء وانحل فاستعماله غير جائز ، لأنه تغيير مخالطة كما لو تغير بمذرور الزعفران والعصفر ، وهكذا حكم سائر الحبوب من الأرز والحمص والعدس وإن طبخ بالنار فإن انحلت في الماء فاستعماله غير جائز ، وإن لم ينحل ولا تغير بها الماء فاستعماله جائز ، وإن تغير بها الماء من غير انحلال أجزائها ففي جواز استعماله وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز كما لو يتغير بلا انحلال من غير طبخ .

                                                                                                                                            والثاني : لا يجوز استعماله ، لأنه بالطبخ صار مرقا .

                                                                                                                                            ومن فروع هذا الفصل أن القطران إذا وقع في الماء فغيره فقد قال الشافعي في كتاب الأم : لا يجوز استعماله ، وقال في موضع آخر : يجوز استعماله ، وليس ذلك على قولين كما وهم فيه بعض أصحابنا ، ولكن القطران على ضربين :

                                                                                                                                            الأول : ضرب فيه دهنية فتغير الماء به لا يمنع من جواز استعماله ، كما لو تغير بدهن .

                                                                                                                                            والثاني : ضرب لا دهنية فيه فتغير الماء فيه مانع من جواز استعماله كما لو يتغير بمائع .

                                                                                                                                            ومن فروع هذا الفصل : أن الماء إذا تغير بالشمع جاز استعماله ، كما لو تغير بدهن ، ولو تغير شحم أذيب فيه بالنار كان في جواز استعماله وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز لأن الشحم دهن .

                                                                                                                                            والثاني : لا يجوز استعماله لأن مخالطة الشحم للماء تجعله مرقا .

                                                                                                                                            ومن فروع هذا الفصل : أن الماء إذا تغير بالكافور فله ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            حال يعلم انحلال الكافور فيه فاستعماله غير جائز ، لأنه تغير مخالطة .

                                                                                                                                            وحال يعلم أنه لم ينحل فيه فاستعماله جائز ، لأنه تغير مجاورة .

                                                                                                                                            وحالة شك فيه ، فينظر في صفاء التغير ، فإن تغير الطعم دون الرائحة فهو دال على تغير المخالطة ويجوز استعماله ، وإن كان تغير الريح ففيه لأصحابنا وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يغلب فيه تغير المخالطة فعلى هذا لا يجوز استعماله .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يغلب تغير المجاورة فيجوز استعماله .

                                                                                                                                            [ ص: 54 ] ومن فروع هذا الفصل أن المني إذا وقع في الماء كان طاهرا لطهارة المني ، فإن لم يغير الماء جاز استعماله وإن تغير ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن استعماله غير جائز كما لو تغير بمائع غير المني .

                                                                                                                                            والثاني : أن استعماله جائز لأنه لا يكاد يماع في الماء كالدهن ، فلم يمنع من استعماله ، لأن تغيره تغير مجاورة .

                                                                                                                                            قال أبو العباس بن العاص : إن الورق في الماء بعد أن ربا فاستعماله غير جائز ، وإن لم يعصر فيه جاز استعماله ، فأما إذا كان ورق الشجر مدقوقا ناعما فغير الماء لم يجز استعماله ، لأنه تغير مخالطة كالزعفران ، وقال أبو حامد الإسفراييني : يجوز استعماله كما لو كان صحيحا ، وهذا غير صحيح ، لأن تغير الماء بالورق المدقوق تغير مخالطة ، وتغيره بالورق الصحيح تغير مجاورة .

                                                                                                                                            ومن فروع هذا الفصل أن الماء إذا تغير بالملح لم ينحل أن يكون ملح حجر أو ملح جمد فإن كان ملح حجر فاستعمال ما تغير به من الماء غير جائز ، كما لو تغير الماء بما ينحل فيه من جواهر الأرض كالكحل وغيره ، وإن كان ملح جمد ففي جواز استعماله وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز لأن أصله ما قد جمد ، فإذا ذاب لم يمنع من جواز الاستعمال كالثلج إذا ذاب .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجوز استعماله لأنه قد استحال عن الماء فصار جوهرا كغيره . ومن فروع هذا الفصل أن الماء إذا تغير بالجماد أو بطول المكث كان استعماله جائزا لأنه تغير مجاورة ، فأما إذا تغير بالتراب فإن صار بحيث لا يجزئ بطبعه لم يجز استعماله ، لأنه صار علينا ، وإن كان جاريا بطبعه لكن تكدر لونه وتغير طبعه ففي جواز استعماله قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز لأنه مذرور .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو الأصح يجوز قرار للماء لا ينفك غالبا عنه كالطين .

                                                                                                                                            [ ص: 55 ] ومن الفروع المضاهية لهذا الفصل تكميل ماء الطهارة بمائع طاهر ، وهو أن يكون الرجل يكتفي في غسله بعشرة أرطال من ماء فيجد ثمانية أرطال قيمتها برطلين من لبن أو مائع غيره ، ولا تغير شيئا من أوصافه فقد اختلف أصحابنا في جواز استعمال جميعه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي علي الطبري وطائفة أن استعمال جميعه غير جائز للإحاطة باستعمال المائع في طهارته .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول الجمهور أن استعماله جائز لأنه لا حكم لما صار مستهلكا فيه من المائع ، ألا ترى أنه لو استعمل ثمانية أرطال هي مقدار الماء وبقي منه رطلان هي مقدار المائع جاز ، وإن أحطنا علما بأن الثاني ليس بمائع فرد ، وأن الذي استعمله ليس بماء فرد ، فكذا إذا استعمل الكل لكون المائع مستهلكا فيه والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية