المسألة الثانية عشرة ـ في الآية ونكتة تكرار لفظة الطاعة : مراتب الطاعات الثلاث
قد رأى القارئ ما قاله الأستاذ الإمام في نكتة تكرار لفظ أطيعوا في جانب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون أولي الأمر ، ولم تكن هذه النكتة ظاهرة عندي ، وقد ورد الأمر بطاعة الله والرسول مع تكرار لفظ الطاعة وعدمه في عدة آيات التفرقة بينها عسيرة ، فإن كان هنالك فرق بين التعبيرين فالأقرب عندي أن يقال : إن إعادة كلمة أطيعوا تدل على تغير الطاعتين ، كأن تجعل الأولى طاعة ما نزل الله من القرآن ، والثانية طاعة الرسول فيما يأمر به باجتهاده ، وقد يؤيد هذا الفهم ما ورد من الحكم بما في كتاب الله عز وجل ، فإن لم يوجد فيه نص في القضية ينظر في سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقضي بما فيها ، وهذا ما أمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذا حين أرسله إلى اليمن ، وهو ما جرى عليه الخلفاء الراشدون وقضاتهم وعمالهم كما تقدم في المسألة الأولى من هذه المسائل ، وعبرنا عنها بالمبحث الأول ، وعطف طاعة أولي الأمر على طاعة الرسول بدون إعادة العامل أطيعوا لأنهما في هذا المقام من جنس واحد ، أي : إن طاعة أولي الأمر في اجتهادهم بدل من طاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اجتهاده وحالة محلها بعد وفاته ، لا لأنهم معصومون كعصمته ، بل لأن المصلحة وارتقاء الأمة وسلامتها من الاستبداد لا تتحقق إلا بذلك ، وقد نبهنا على هذا المعنى من قبل ، وإنما أعدناه لنذكر الناس أن هؤلاء الأصوليين لم يقولوا بعصمة الأنبياء في اجتهادهم ؛ لأن الله تعالى بين في كتابه شيئا مما عاتبهم فيه على بعض اجتهادهم ولم يقرهم عليه فكيف يكون لخلفهم من أولي الأمر من المزية ما ليس لهم ؟
[ ص: 180 ] وما ثبت في السنة وعمل الصحابة من جعل السنة في المرتبة الثانية يدل على أن الكتاب لا ينسخ بها ، وأنه هو المرجح دائما عند التعارض .
هذا ما فتح به علينا عند طبع تفسير هذه الآية الحكيمة من المسائل التي يتجلى به معناها ، والترجيح بين أقوال المفسرين فيها أنه يجب على جميع المؤمنين طاعة الله بالعمل بكتابه ، وطاعة رسوله باتباع سنته ، وطاعة جماعة أولي الأمر ـ وهم أهل الحل والعقد من علماء الأمة ورؤسائها الموثوق بهم عندها ـ فيما يضعونه لها بالشورى من الأحكام المدنية ، والقضائية ، والسياسية ، ومنها الصحية والعسكرية ، وإذا وقع التنازع بين أولي الأمر ، أو بين أفراد الأمة وجماعاتها في شيء فيجب رده إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة ، والعمل بما يظهر للمتنازعين أو لمن يحكمونهم في فصل النزاع من النصوص ، أو مقتضى القواعد والأصول العامة فيهما أو القياس على ما عرفت علته فيهما ، ولا نسلم قول الرازي والنيسابوري : إن هذا الرد خاص بما لا نص فيه ولا إجماع ; لأنه مبني على التنازع والخلاف ، ويجوز أن يقع التنازع والخلاف فيما فيه نص لم يعرفه المتنازعون ، كما اختلف المهاجرون والأنصار على عمر في الدخول على مكان الطاعون مع وجود النص الذي رواه بعد ذلك ، ولو جاء عبد الرحمن بن عوف عبد الرحمن قبل تحكيم عمر لمشايخ قريش ، وروى لهم الحديث لعملوا به ولم يحتاجوا إلى التحكيم ، فليتأمل المستقلون ما حققناه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
( تنبيه ) : تكرر في تفسير هذه الآية لفظ " النص " معرفا ومضافا إلى الكتاب والسنة بمعنى عبارتهما لا النص الأصولي .