وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
أي : فمنهما تارة أموت فيها إلخ ، ومثله كثير ، والأول أظهر ، وتحريف الكلم عن مواضعه هو : إمالته وتنحيته عنها كأن يزيلوه بالمرة أو يضعوه في مكان غير مكانه من الكتاب ، أو المراد بمواضعه : معانيه ؛ كأن يفسروه بغير ما يدل عليه .قال الأستاذ الإمام : التحريف يطلق على معنيين :
( أحدهما ) : تأويل القول بحمله على غير معناه الذي وضع له وهو المتبادر ; لأنه هو الذي حملهم على مجاحدة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنكار نبوته وهم يعملون ، إذ أولوا ولا يزالون يئولون البشارات به إلى اليوم كما يئولون ما ورد في المسيح ويحملونه على شخص آخر لا يزالون ينتظرونه .
( ثانيهما ) : أخذ كلمة أو طائفة من الكلم من موضع من الكتاب ووضعها في موضع آخر ، وقد حصل مثل هذا التشويش في كتب اليهود : خلطوا فيما يؤثر عن موسى ـ عليه السلام ـ ما كتب بعده بزمن طويل ، وكذلك وقع في كلام غيره من الأنبياء ، وقد اعترف بهذا بعض المتأخرين من أهل الكتاب ، وإنما كان هذا منهم بقصد الإصلاح ، وهذا النوع من التحريف لا يضر المسلمين ولم يكن هو الحامل على إنكار ما جاء به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
هذا ما قرره الأستاذ الإمام في الدرس ، وكتبت في مذكرتي عند كتابته كأنه وجد عندهم قراطيس متفرقة ، أي بعد أن فقدت النسخة التي كتبها موسى عليه السلام ، فأرادوا أن يؤلفوا بين الموجود ، فجاء فيه ذلك الخلط ، وهذا سبب ما جاء في أسفار التوراة من الزيادة والتكرار ، وقد أثبت العلماء تحريف كتب العهد العتيق والعهد الجديد بالشواهد الكثيرة ، وفي كتاب ـ إظهار الحق ـ للشيخ رحمة الله الهندي رحمه الله تعالى مائة شاهد على التحريف اللفظي والمعنوي فيها ، والأول ثلاثة أقسام : تبديل الألفاظ ، وزيادتها ، ونقصانها .
فمن الشواهد على الزيادة ما جاء في سفر التكوين " 36 : 31 وهؤلاء الملوك الذين ملكوا في الأرض أدوم قبل أن ملك ملك لبني إسرائيل " ولا يمكن أن يكون هذا من كلام موسى عليه السلام ; لأنه لم يكن لبني إسرائيل ملك الأرض إلا من بعده ، وكان أول ملوكهم ( شاول ) وهو بعد موسى بثلاثة قرون ونصف ، وقد قال آدم كلارك أحد مفسري التوراة : أظن ظنا قويا قريبا من اليقين أن هذه الآيات [ أي من 32 - 39 ] ، كانت مكتوبة على حاشية نسخة صحيحة من التوراة فظن الناقل أنها جزء المتن فأدخلها فيه .
[ ص: 115 ] ومنها في سفر تثنية الاشتراع " 3 : 14 يائير بن منسى أخذ كل كورة أرجوب إلى تخم الجشوريين والمعكيين ودعاها على اسمه باشان حووث يائير إلى هذا اليوم " قال هورون في المجلد الأول من تفسيره بعد إيراد هذه الفقرة والفقرة السابقة : " هاتان الفقرتان لا يمكن أن يكونا من كلام موسى ( عليه السلام ) لأن الأولى دالة على أن مصنف هذا الكتاب ـ سفر التكوين أو التوراة كلها ـ وجد بعد زمان قامت فيه سلطنة بني إسرائيل ، والفقرة الثانية دالة على أن مصنفه كان بعد زمان إقامة اليهود في فلسطين " إلى آخر ما قاله ، ومنه أن هاتين الفقرتين ثقل على الكتاب ولا سيما الثانية .
وقد صرح هؤلاء المفسرون بأن عزرا الكاتب قد زاد بعض العبارات في التوراة ، وصرحوا في بعضها بأنهم لا يعرفون من زادها ، ولكنهم يجزمون بأنها ليست مما كتبه موسى ، وكثرة الألفاظ البابلية في التوراة تدل على أنها كتبت بعد سبي البابليين لبني إسرائيل ، وهنالك شواهد على تحريف سائر كتبهم تراجع في الكتب المؤلفة لبيان ذلك .