إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما .
نهى سبحانه عن أكل الأموال بالباطل ، وعن قتل الأنفس ، وهما أكبر الذنوب المتعلقة بحقوق العباد ، وتوعد فاعل ذلك عدوانا وظلما بالنار ، ثم نهى عن جميع الكبائر التي يعظم ضررها وتؤذن بضعف إيمان مرتكبها ، ووعد على تركها بالجنة ومدخل الكرامة ، وقيل : المراد بالكبائر هنا جميع ما تقدم النهي عنه في هذه السورة ، قال البقاعي بعد الآيتين السابقتين : ولما بين تعالى ما لفاعل ذلك تحذيرا أتبعه ما للمنتهي تبشيرا ، وكان قد تقدم جملة من الكبائر فقال ، وذكر الآية .
الاجتناب : ترك الشيء جانبا ، والكبائر : جمع كبيرة ، أي الفعائل أو المعاصي الكبائر ، والسيئات : جمع سيئة ، وهي الفعلة التي تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا ، أو تسوء غيره كما تقدم في تفسير : وكفر عنا سيئاتنا ( 3 : 193 ) ، وفسروها بالصغائر بدليل مقابلتها بالكبائر ، واللفظ أهم والتخصيص غير متعين .
الأستاذ الإمام : اختلف العلماء نقلوا عن هل في المعاصي صغيرة وكبيرة أم المعاصي كلها كبائر ؟ أن كل ما عصي الله به فهو كبيرة ، صرح بذلك ابن عباس الباقلاني والإسفراييني ، وقالت وإمام الحرمين المعتزلة وبعض الأشاعرة : إن من الذنوب كبائر وصغائر ، وقال : إن هذا من البديهيات ، وقد اختلف في الصغائر والكبائر ، فقيل : هي سبع ، لحديث صحيح في ذلك ، ولكن الأحاديث الصحيحة في عدها مختلفة ومجموعها يزيد على سبع ، وقد ذكرت على سبيل التمثيل . الغزالي
أقول : أشهر هذه الأحاديث ما ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أبي هريرة ومنها أيضا من حديث اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل مال اليتيم ، [ ص: 40 ] والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، أبي بكرة أنه قال ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من حديث البخاري ، وزيادة واليمين الغموس ابن عمر وفي الصحيحين أيضا من حديث ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال : ألا وقول الزور ، وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت ، وفي لفظ عند ابن عمرو قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكر في كل مقام ما تمس إليه الحاجة ، فلم يرد شيء من ذلك في مقام الحصر والتحديد ، ولكن الأحاديث صريحة في إثبات الكبائر ويقابلها الصغائر ، والظاهر منها أن كبرها في ذواتها وأنفسها ؛ لما فيها من المفسدة والضرر ، والموبقات إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا : وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه من أوبقه إذا أهلكه ، أو ذلله ، ويقابل الموبق ما يضر ضررا قليلا ، وما حرم الإسلام شيئا إلا لضرره في الدين أو النفس أو العقل أو المال أو العرض . أكبر الكبائر
وكيف ينكر أحد انقسام الذنوب إلى كبائر وغير كبائر ، وقد صرح بذلك القرآن في غير هذا الموضع ، وهو من ذاته بديهي ـ كما قال ـ فإن المنهيات أنواع لها أفراد تتفاوت في أنفسها وفي الداعية النفسية التي تسوق إليها . الغزالي
قال تعالى بعد ذكر جزاء المسيئين والمحسنين في سورة النجم : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم 53 : 32 ] ، والفواحش معطوفة على الكبائر ، وهي ما فحش من الفعائل القبيحة ، وهذه الآية تناسب الآية التي نفسها في معناها بذاتها وموقعها مما قبلها ، فقد عبر في كل منهما باجتناب الكبائر ، وجعل جزاء هذا الاجتناب تكفير ما دون الكبائر والفواحش وغفرانه ، ولكنه عبر عن مقابل الكبائر هنا بالسيئات وهو لفظ يشمل الصغائر والكبائر كما علم من استعماله في عدة مواضع من القرآن ، وعبر في سورة النجم باللمم ، وفسروا اللمم بما قل وصغر من الذنوب ، كما فسروا السيئات هنا بالصغائر وما أخذوا ذلك إلا من المقابلة كما تقدم ، وقد يكون اللمم بمعنى مقاربة الكبيرة أو الفاحشة بإتيان بعض مقدماتها مع اجتناب اقترافها ، من ألمت النخلة إذ قاربت الإرطاب وألم الغلام إذا قارب البلوغ ، وسيأتي من كلام في تكفير الذنوب ما يوضحه بالأمثلة ، ومن التناسب المتعلق بالسياق أنه علل في سورة النجم مغفرة اللمم بعلم الله تعالى بحال الإنسان في خروجه من مواد الأرض الميتة تكون غذاء [ ص: 41 ] فدما فمنيا يلقح البويضات في رحم الأم ، وعلمه بحاله بعد هذا التلقيح إذ يكون جنينا في بطن أمه لا يقدر على شيء ، فقصاراه أن الإنسان ضعيف كما قال في أخرى : الغزالي خلقكم من ضعف ( 30 : 54 ) ، وقد تقدم الآية التي نفسرها تعليل التخفيف عن المكلفين بقوله تعالى : وخلق الإنسان ضعيفا ( 4 : 28 ) .
ومما ورد صريحا في قوله تعالى : تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ( 18 : 49 ) ، وقوله تعالى : وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر ( 54 : 52 ، 53 ) .
وإذا كان هذا صريحا في القرآن فهل يعقل أن يصح عن إنكاره ؟ لا ، بل روى ابن عباس عبد الرزاق عنه أنه قيل له : هل الكبائر سبع ؟ فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وروى ابن جبير أنه قال : هي إلى السبعمائة أقرب ، وإنما عزي القول بإنكار تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر إلى الأشعرية ، وكأن القائلين بذلك منهم أرادوا أن يخالفوا به المعتزلة ولو بالتأويل كما يعلم من كلام ، فإنه صحح كلام ابن فورك الأشعرية ، وقال : " معاصي الله كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة ، وقالت المعتزلة : الذنوب على ضربين صغائر وكبائر وهذا ليس بصحيح " اهـ ، وأول الآية تأويلا بعيدا ، وهل يؤول سائر الآيات والأحاديث لأجل أن يخالف المعتزلة ولو فيما أصابوا فيه ؟ لا يبعد ذلك ، فإن التعصب للمذاهب هو الذي صرف كثيرا من العلماء الأذكياء عن إفادة أنفسهم وأمتهم بفطنتهم ، وجعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن حقيقة الدين ، وسترى ما ينقله الرازي عن ويرده لأجل ذلك ، وأين الغزالي الرازي من ، وأين الغزالي معاوية من علي ؟
والموافقون للمعتزلة من محققي الإشارة وغيرهم اختلفوا في فقيل : هي كل معصية أوجبت الحد ، وقيل : ما نص الكتاب على تحريمه ووجب في جنسه حد ، وقيل : كل محرم لعينه أي لا لعارض ، أو لا لسد ذريعة ، وضعفوا هذه الأقوال وأقوالا أخرى كثيرة ، وقال بعض العلماء : إن الكبائر كل ما توعد الله عليه ، قيل : في القرآن فقط ، وقيل : في الحديث أيضا ، وقال بعضهم تعريف الكبيرة ، كإمام الحرمين واستحسنه والغزالي الرازي : إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به ، وهو قول مقبول قريب من المعقول ، والمختلفون في تعريفها متفقون على القول بأن هناك صغيرة وكبيرة ، وأن ، وقال بعضهم : إن الله تعالى أبهم الكبائر لتجتنب كل المعاصي ، فإن من عرضت له كل معصية لم يعلم أنها من الكبائر التي يعاقب عليها أو من الصغائر التي يكفرها الله عنه بترك الكبائر ، فالاحتياط يقضي عليه بأن يجتنبها ، ولا يظهر فرق بين القول بأن جميع المعاصي كبائر والقول بأن منها صغائر مبهمة غير معينة فهي لا تعلم ، وقد أطال ترك الكبائر يكفر الصغائر ابن حجر البحث في ذلك ، فليراجع كتابه الزواجر من شاء .
[ ص: 42 ] الأستاذ الإمام : إن الذين قسموا المعصية إلى صغيرة وكبيرة ، وأرادوا بالسيئات الصغائر لم يفهموا الآية ، وقد قال الله تعالى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ( 45 : 21 ) ، فجعل أهل السيئات في مقابلة المؤمنين ، فهم المشركون والكافرون المفسدون ، وقال : وليست التوبة للذين يعملون السيئات ( 4 : 18 ) ، الآية ، وما العهد بتفسيرها ببعيد ، ولا يمكن حمل السيئات فيها على الصغائر ، والصواب أن في كل سيئة ، وفي كل نهي خاطبنا الله تعالى به كبيرة أو كبائر ، وصغيرة أو صغائر ، وأكبر الكبائر في كل ذنب عدم المبالاة بالنهي والأمر ، واحترام التكليف ومنه الإصرار ، فإن المصر على الذنب لا يكون محترما ولا مباليا بالأمر والنهي .
فالله تعالى يقول : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه أي الكبائر التي يتضمنها كل شيء تنهون عنه ، نكفر عنكم سيئاتكم أي : نكفر عنكم صغيره فلا نؤاخذكم عليه ، فإضافة السيئات إلى ضمير المخاطبين يدل على ما قاله جمهور الأشاعرة من أنه لا كبيرة ; بمعنى أن بعض السيئات يكون كبيرة مطلقا على الدوام ، وإن فعل بجهالة عارضة وعدم استهانة ، ولا صغيرة مطلقا ، وإن فعلت لعدم الاكتراث بالنهي وأصر الفاعل عليها ، ويدل على هذا ما قاله ـ رضي الله عنه ـ حين قيل له : الكبائر سبع ؟ ، قال : هي إلى السبعمائة أقرب ، ولا صغيرة مع إصرار ، ولا كبيرة مع استغفار ، أي : مع توبة ، فكل ذنب يرتكب لعارض يعرض على النفس من استشاطة غضب ، أو غلبة جبن ، أو ثورة شهوة وصاحبه متمكن من الدين يخاف الله ولا يستحل محارمه فهو من السيئات التي يكفرها الله تعالى ، إذا كان لولا ذلك العارض القاهر للنفس لم يكن ليجترحه تهاونا بالدين ، وكان بعد اجتراحه إياه حال كونه مغلوبا على أمره يندم ويتألم ويتوب ويرجع إلى الله عز وجل ويعزم على عدم العودة إلى اقتراف مثله ، فهو بعدم إصراره وباستقرار هيبة الله وخوفه في نفسه يكون أهلا لأن يتوب الله عليه ويكفر عنه ، وكل ذنب يرتكبه الإنسان ـ مع التهاون بالأمر وعدم المبالاة بنظر الله إليه ورؤيته إياه حيث نهاه ـ فهو مهما كان صغيرا أي : في صورته أو ضرره ، يعد كبيرة ( أي : من حيث هو استهانة بالدين وداع إلى الإصرار والانهماك والاستهتار ) ، ومثال ذلك : تطفيف الكيل والميزان وإخسارهما ، فقد قال تعالى : ابن عباس ويل للمطففين ( 83 : 1 ) ، وهو يصدق بالقليل والكثير ولو حبة ، والهمز واللمز ، فقد قال تعالى : ويل لكل همزة لمزة ( 104 : 1 ) ، أي : الذين اعتادوا الهمز واللمز ، وهما عيب الناس والطعن في أعراضهم ، والويل : الهلاك فهو وعيد شديد .
أقول : إن هذا الذي ذهب إليه هو ترجيح للقول بأن الكبائر بحسب قصد فاعلها وشعوره عند اقترافها وعقبه ، لا في ذاتها وحسب ضررها ، وهذا لا يقتضي إنكار تمايز المعاصي في أنفسها ، وكون منها الصغيرة كالنظر إلى ما لا يحل النظر إليه من المرأة الأجنبية ، ومنها ما هو كبيرة كالزنا ، وكذلك ضرب الرجل خادمه ضربا خفيفا بدون ذنب يقتضي [ ص: 43 ] ذلك يعد صغيرة ، وأما قتله إياه فلا يمكن أن يعد صغيرة في نفسه مهما كان الباعث النفسي عليه ، ولكن مسألة تكفير السيئات وعدم المؤاخذة عليها في الآخرة تتعلق بمقاصد النفس وقوة الإيمان وسلطانه في القلب ، وهو ما جرى عليه وتبعه الأستاذ الإمام ، وإننا ننقل عن الغزالي نبذا تدل على رأيه في هذه المسألة . الغزالي
قال الرازي : وذكر الشيخ رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر ، فقال : فهذا كله قول من قال : إن الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها . الغزالي
وأما القول الثاني : وهو قول من يقول : إن لكل طاعة قدرا من الثواب ، ولكل معصية قدرا من العقاب ، فإذا أتى الإنسان بطاعة واستحق بها ثوابا ، ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا فهاهنا الحال بين ثواب الطاعة ، وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعادلا ويتساويا ، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد ؛ لأنه تعالى قال : فريق في الجنة وفريق في السعير ( 42 : 7 ) .
( والقسم الثاني ) : أن يكون ثواب طاعة أزيد من عقاب معصية ، وحينئذ ينحبط ذلك بما يساويه من الثواب ويفضل من الثواب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير .
( والقسم الثالث ) : أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته ، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب ، ويفضل من العقاب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة وهذا الانحباط هو المسمى بالإحباط ; وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة ، وهذا قول جمهور المعتزلة .
ثم رد الرازي هذا الكلام قال : لا لأنه مبني على أصول باطلة عندنا ، أي : عند الأشعرية ، وذكر منها كون الطاعة توجب الثواب ، والمعصية توجب العقاب ، ومنها القول بالإحباط ، وبأن الإنسان يستحق بعمله الصالح جزاء ، وكل ذلك مردود عنده ، لا أدري أنقل الرازي هذه العبارة بنصها أم بمعناها ، ولكن أقول على الحالين : إن توجيه الرجل ذكاءه لمناقشة المعتزلة وتفنيد أقوالهم ، ونصر الأشاعرة وتأييد مذهبهم قد شغله في كثير من المواضع عن استبانة الحقيقة في نفسها ، فعبارة التي ذكرها ليس فيها ذكر لإيجاب الطاعة الثواب والمعصية العقاب ، وإنما حرك هذه المسألة في خياله ذكر الغزالي المعتزلة ، وإنما ذكر استحقاق العامل الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية ، وهذا الاستحقاق [ ص: 44 ] ليس بإيجاب من ذي سلطة على الله عز وجل ، وإنما هو بحسب وعده ووعيده تعالى ، وآيات القرآن الدالة عليه تعلو تأويل المؤولين وجدل المجادلين ، وكذلك حبوط الأعمال بالكفر ، وإحاطة المعاصي ثابتة في القرآن لا يمكن لأحد أن يماري فيها مراء ظاهرا الغزالي أولئك حبطت أعمالهم ( 9 : 17 ) ، بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار 2 : 81 ] ، كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( 83 : 14 ) ، على أن كلام هنا لا يوضح معنى الكبيرة والصغيرة ، وإن كان صحيحا في نفسه ، وفيه معنى تكفير السيئات . الغزالي
وهذه الموازنة بين الحسنات والسيئات التي أشار إليها إنما تتحقق بحسب تأثيرها في النفس ، فإذا زكت النفس بغلبة تأثير الطاعات فيها على تأثير المعاصي أفلحت وارتفعت إلى عليين ، وإذا كان العكس خسرت وحبط ما عملت قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ( 91 : 9 ، 10 ) ، وقد أوضحنا هذا المعنى في التفسير غير مرة ، وأن تكفير الحسنات وإذهابها للسيئات الذي صرح به القرآن ظاهر معقول ، ولكن تكفير ترك الكبائر السيئات يحتاج إلى إيضاح ، لكن هذا أمر عدمي ، فكيف يكون له أثر يضاد أثر السيئات حتى يغلب عليها ويكفرها ؟
قال في بيان الركن الثاني من مباحث التوبة ، وهو ما عنه التوبة ، أي الذنوب ما نصه : " اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ، ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس ، فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه ، فهذا معنى تكفيره ، فإن كان عنينا ، أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز ، أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف أمر آخر ، فهذا لا يصلح للتكفير أصلا ، وكل من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار . الغزالي
نعم من يشتهي الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما تمحو عن قلبه الظلمة التي ارتفعت إليه من معصية السماع .
فكل هذه أحكام أخروية ، ويجوز أن يبقى بعضها محل الشك ، وتكون من المتشابهات فلا يعرف تفصيلها إلا بالنص ، ولم يرد النص بعد ولا حد جامع ، بل ورد بألفاظ مختلفات ، فقد روى ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أبو هريرة فهذا وأمثاله من الألفاظ لا يحيط بالعدد كله ولا يدل على حد جامع فيبقى لا محالة مبهما اهـ . " الصلاة إلى الصلاة كفارة ، ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث : إشراك بالله ، وترك السنة ، ونكث الصفقة " قيل : ما ترك السنة ؟ قال : الخروج عن الجماعة ، ونكث الصفقة أن يبايع [ ص: 45 ] رجلا ثم يخرج عليه بالسيف يقاتله "
وقال في بيان الركن الثاني ، وهو تمام التوبة ، وشروطها ، ودوامها :
" وأما المعاصي فيجب أن يفتش في أول بلوغه عن سمعه وبصره ولسانه وبطنه ويده وفرجه وسائر جوارحه ، ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته ، ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه حتى يطلع على جميعها صغائرها وكبائرها ، ثم ينظر فيها فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد كنظر إلى غير محرم وقعود في مسجد مع الجنابة ، ومس مصحف بغير وضوء ، واعتقاد بدعة ، وشرب خمر ، وسماع ملاه وغير ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها ، وبأن يحسب مقدارها من حيث الكبر ، ومن حيث المدة ، ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها ، فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذا من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بل من قوله تعالى : اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها إن الحسنات يذهبن السيئات ( 11 : 114 ) ، فيكفر سماع الملاهي بسماع القرآن وبمجالس الذكر ، ويكفر القعود في المسجد جنبا بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة ، ويكفر مس المصحف محدثا بإكرام المصحف وكثرة قراءة القرآن منه ، وكثرة تقبيله وبأن يكتب مصحفا ويجعله وقفا ، ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه ، وعد جميع المعاصي غير ممكن ، وإنما المقصود سلوك الطريق المضادة ، فإن المرض يعالج بضده فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب لا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها ، والمتضادات هي المتناسبات ; فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكن تضادها ، فإن السواد يزال بالبياض لا بالحرارة والبرودة ، وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريقة المحو ، فالرجاء فيه أصدق ، والثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو .
فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى ، ويدل على أن الشيء يكفر بضده ، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، وأثر اتباع الدنيا في القلب السرور بها والحنين إليها ، فلا جرم كان كل أذى يصيب المسلم ينبو بسببه قلبه عن الدنيا يكون كفارة له ; إذ القلب يتجافى بالهموم والغموم عن دار الهموم ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : انتهى المراد هنا . من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم وفي لفظ آخر : إلا الهم بطلب المعيشة
وله في هذا المنحى كلام كثير في مواضع متفرقة ، فعلم من ذلك أن تكفير الحسنات للسيئات إنما يكون بإذهاب أثرها السيئ من النفس وهو الأنس بالباطل والشر ، والرغبة [ ص: 46 ] فيه والاستلذاذ به ، وأما تكفير اجتناب الكبائر للسيئات فقد بين أنه يتحقق بالقصد والإرادة ، فإن الاجتناب الذي هو ترك يتحقق عند داعية العمل بعمل النفس ، وهو الإرادة التي تكف النفس عن الفعل الذي حصلت داعيته ، ومما أتذكر من أمثلته في ذلك أن من دخل دار رجل أو بستانه بقصد السرقة ، ثم ذكر الله وخافه فكف نفسه عن السرقة وخرج ، فإن هذا الكف عن الكبيرة يكفر من نفسه دخول ملك غيره بدون إذنه ; لأن شعور الإيمان الذي تنبه فيه يكون قد غلب شعور الفسق الذي حركه أولا لقصد السرقة ومحاه وأزاله ، وأما من دخل ملك غيره بدون إذنه ولا العلم برضاه وهو لا يقصد إلا الاستهانة بحقه ، فإن هذه السيئة تقوي في نفسه أثر الشر وداعية التعدي ولا يكفر ذلك ويمحوه كونه مجتنبا لشرب الخمر مثلا وإن اجتنبه بقصد مع حصول داعيته ، فإن كثيرا من الفساق يضرون ببعض المعاصي ويجتنبون غيرها أشد الاجتناب ، فهل يكون لهذا الاجتناب أثر في تزكية النفس وتطهيرها مما ضريت به وأصرت عليه ؟ بل ولا مما فعلته مرة واحدة ، ولم تتبعه بالندم والتوبة ، ولكن قد تكفر مثل هذه الحسنات التي تصلح النفس في مجموعها ، ومن فهم هذا لا يرى إشكالا في الجمع بين الآية وحديث الغزالي مسلم : وإن تخبط فيه الكثيرون . الصلوات الخمس مكفرة لما بينها ما اجتنب الكبائر
لكل مرض من الأمراض البدنية دواء خاص يزيله ، ولا يزيل غيره من الأمراض ، وأما تقوية البدن كله بالغذاء الموافق والرياضة واستنشاق الهواء النقي ، والبروز للشمس فإنه يساعد على شفاء كل مرض إذا لم يكثر التعرض لأسبابه ، وإن أدواء النفس وأدويتها تشبه أمراض البدن وأدويتها ، ولله در أبي حامد حيث ذهب إلى أن الطاعات التي تكفر المعاصي ينبغي أن تكون من جنسها وإن لم تكن أمثلته كلها مطابقة لقاعدته ، وحيث لم ينس أن إصلاح النفس بأنواع الطاعات قد يذهب بعض السيئات التي ليست من جنس هذه الطاعات ، لله دره ما أدق فهمه لحكمة القرآن وتطبيقه على فطرة الإنسان ، ومن وقف على ما ثبت عند علماء الإنسان بعد من تعدد مراكز الإدراك في الدماغ الذي هو آلة النفس ، وكون كل نوع منها له مركز خاص ، وجعل ذلك مطردا في أنواع الشعور والوجدان ، وما تكون الأعمال من ملكات الأخلاق والعادات ، فإنه يعجب بما أوتي هذا الرجل من قوة الذهن ونفوذ أشعة الفهم ، وإذا علم أنه قد قال : إن الماء ليس عنصرا بسيطا كما تقول الغزالي فلاسفة اليونان بل هو مركب ، فإنه يحكم له بالنبوغ في إدراك الحقائق الحسية ، كما حكم له بإدراك الحقائق المعنوية .
أما وندخلكم مدخلا كريما فقد قرأ الجمهور قوله : مدخلا بضم [ ص: 47 ] الميم ، وهو اسم مكان من الإدخال ، أي : وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة ، وقرأه قوله تعالى : أبو جعفر ونافع بفتح الميم ، وهو اسم مكان من الدخول ، أي : ندخلكم فتدخلون مكانا كريما ، ووصف المكان بالكريم ظن من لا يرجع في المعاني إلى أصول اللغة أنه بمعنى الحسن تجوزا ولكن العرب قالت : أرض كريمة وأرض مكرمة : أي طيبة جيدة النبات ، وفي التنزيل : فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم ( 26 : 57 ، 58 ) ، وقد يكون المدخل الكريم والمقام الكريم هو المكان الذي يكرم به من يدخله ويقيم فيه .