( بديع السماوات والأرض ) هذا بيان لما قبله من معنى تسبيح الباري وتعاليه عما يصفه به المشركون . البدع - بالفتح - الإنشاء والإيجاد المبتدأ ، أو البدع - بالكسر - والبديع الشيء الذي يكون أولا كما قال في اللسان ، ومنه البدعة في الدين ، ويقال : بدع الشيء ( من باب قطع ) وأبدعه وابتدعه . وقال الراغب : الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء ، ومنه قيل ركية بديع أي جديدة الحفر . وإذا استعمل في الله تعالى فهو إيجاد الشيء بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان وليس ذلك إلا لله . وقال صاحب اللسان : والبديع المحدث العجيب ، والبديع المبدع ، وأبدعت الشيء اخترعته لا على مثال ، والبديع من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها ، وهو البديع الأول قبل كل شيء . ويجوز أن يكون بمعنى مبدع ، أو يكون من بدع الخلق أو بدأه . والله تعالى كما قال سبحانه : ( بديع السماوات والأرض ) أي خالقهما ومبدعهما فهو سبحانه الخالق المخترع لا عن مثال سابق انتهى . وذكر أن بديعا من بدع لا من أبدع ، وهو معروف ، فإن الأصل في صيغة فعيل أن تكون من الثلاثي وقد سمع ورودها من الأفعال الرباعية شذوذا ، وهي تأتي بمعنى فاعل كقدير ، وبمعنى مفعول كقتيل ، وهو هنا بمعنى الفاعل أو الصفة المشبهة .
والمعنى على اختلاف التقدير - أن الله هو الذي بدع السماوات والأرض ، أو البديع سماواته وأرضه بما كان من إبداعه واختراعه لهما ، أو البديع فيهما بمعنى أنه لا شبه له ولا نظير فيهما ، وإذا كان هو المبدع للسموات والأرض ، ولم يوصفا بكونهما من ولده فكذلك الملائكة ، وأولى بهذا وأجدر أن يكون خلقه للمسيح من أم بغير أب غير مسوغ لجعله ولدا له إذ قصارى ذلك أن يكون إبداعا ما . والإبداع التام - وهو إيجاد ما لم يسبق له نظير في ذاته ولا في وصفه ولا في سببه إن كان له سبب - ليس ولادة ، وأثر هذا الإبداع وهو المبدع لا يسمى ولدا ; إذ الولادة ما كان ناشئا عن ازدواج بين ذكر وأنثى [ ص: 542 ] من جنس واحد ، وليس له جنس فيكون له منه زوج ولذلك قال : ( أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ) أي كيف يكون له - وهو المبدع لكل شيء - ولد ، والحال أنه لم يكن له زوج ينشأ الولد من ازدواجه بها ، ولا معنى للولد إلا ما كان كذلك ، وإنما صدور جميع الكائنات السماوية والأرضية عنه صدور إيجاد إبداعي للأصول الأولى ، وإيجاد سببي كالوالد بينها بحسب سننه في التوالي ، ولذلك قال : ( وخلق كل شيء ) خلقا ولم يلده ولادة ، فما خرقتم له من الولد مخلوق له لا مولود منه ، فإن خرجتم عن وضع اللغات وسميتم صدور المخلوقات عنه ولادة فكل ما في السماوات والأرض يكون من ولده ، وحينئذ يفوتكم ما أردتم من تخصيص بعض المخلوقات بهذه المرتبة تفضيلا لها على غيرها ، ولا يقول أحد منهم بهذا ، وهذه الجملة استئنافية مقررة لإنكار نفي الولد ، أو حال بعد حال ، واستدلال بعد استدلال ، ومثلها قوله : ( وهو بكل شيء عليم ) وبيانه أن علمه بكل شيء ذاتي له ، ولا يعلم كل شيء إلا الخالق لكل شيء ( ألا يعلم من خلق ) 67 : 14 ولو كان له ولد لكان هو أعلم به ولهيأ العقول إليه بآيات الوحي ودلائل العلم ، ولكنه كذب الذين خرقوه له - بغير علم - بالوحي المؤيد بدلائل العقل ، قال البيضاوي : وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه : ( الأول ) أنه من مبدعاته السماوات والأرض ، وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها ، فهو أولى بأن يتعالى عنها ، ( والثاني ) أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين ، والله تعالى منزه من التجانس ، ( والثالث ) أن الولد كفء للوالد ، ولا كفء له لوجهين ، الأول : أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه ، والثاني : أنه لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره بالإجماع انتهى ، وقد تقدم مثل هاتين الآيتين في سورة البقرة .