الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( شبهة أخرى على تحريم قليل المسكر وعلة تحريمه ) .

                          ويعلم من هذه الأحاديث فساد قوله من عساه يقول : إن القليل من الخمر لا تتحقق فيه علة التحريم ، والقياس أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما ، ومتى فقدت العلة كان إثبات الحكم منافيا للحكمة ، ووجه فساده : أنه لا قياس مع النص وأن قاعدة سد ذرائع الفساد الثابتة في الشريعة تقتضي منع قليل من الخمر والميسر لأنه ذريعة لكثيره ، ولعله لا يوجد في الدنيا ما يشابههما في ذلك .

                          بينا في تفسير آية البقرة التعليل لكون قليل الخمر يدعو إلى كثيرها كذلك الميسر وكون متعاطيهما قلما يقدر على تركهما ( ص267 وما بعدها ج2ط الهيئة ) ولهذا يقل أن يتوب مدمن الخمر ، لأن ما يبعثه على التوبة من وازع الدين أو خوف الضرر يعارضه تأثير سم الخمر الذي يسمى لغة " الغول " بالفتح واصطلاحا الكحول في العصب الداعي بطبع إلى معاودة الشرب ، وهو ألم يسكن بالشرب مؤقتا ثم يعود كما كان أو أشد . [ ص: 67 ] ومتى تعارضت الاعتقادات والوجدانات المؤلمة أو المستلذة في النفس رجحت عند عامة الناس الثانية على الأولى ، وإنما يرجح الاعتقاد عند الخواص وهم أصحاب الدين القوي والإيمان الراسخ ، وأصحاب الحكمة والعزيمة القوية ، وهذا الألم الذي أشرنا إليه قد ذكره أهل التجربة في أشعارهم كقول أبي نواس :


                          وداوني بالتي كانت هي الداء

                          .

                          وقال الشاعر :


                          وكأس شربت على لذة     وأخرى تداويت منها بها

                          .

                          وإننا نرى جميع المتعلمين على الطريقة المدنية في هذا العصر وأكثر الناس في البلاد التي تنشر فيها الجرائد والمجلات العلمية يعتقدون أن الخمر شديدة الضرر في الجسم والعقل والمال وآداب الاجتماع ، ولم نر هذا الاعتقاد باعثا على التوبة منها إلا للأفراد منهم ، حتى إن الأطباء منهم وهم أعلم الناس بمضارهم كثيرا ما يعاقرونها ويدمنونها ، وإذا عذلوا في ذلك أجابوا بلسان الحال أو لسان المقال بما أجاب به طبيب عذله خطيب على أكله طعاما غليظا كان ينهى عن أكله إذ قال : إن العلم غير العمل فكما أنك أيها الخطيب تسرد على المنبر خطبة طويلة في تحريم الغيبة والخوض في الأعراض ثم يكون جل سمرك في سهرك اغتياب الناس ، كذلك يفعل الطبيب في نهيه عن الشيء لا ينتهي عنه إذا كان يستلذه وأنكرت ذلك على طبيب فقال : لأن أعيش عشر سنين منعما آثر عندي من عشرين ، قلت : وهذا مردود على قواعدكم وتجاربكم لأن السكر يحدث الأمراض والأدواء وقد يعيش صاحبها طويلا وصح قولي هذا فيه .

                          وقد مضت سنة الله تعالى بأن تكون قوة تأثير الدين على أشدها وأكملها في نشأته الأولى كما يفيده قوله تعالى : ( ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) ( 57 : 16 ) ولهذا ترك جمهور المؤمنين الخمر في عصر التنزيل ولكن بقي من المدمنين من لم يقو على احتمال آلام الخمار وما يعتري الشارب بعد تنبه العصب بنشوة السكر ، من الفتور والخمود الداعي إلى طلب ذلك التنبيه ، فكان أفراد منهم يشربون فيجلدون ويضربون بالجريد وكذا بالنعال ، ثم يعودون راضين بأن يكون هذا الحد الذي يحدونه ، أو التعزير الذي يعزرونه ، مطهرا من الذنب الديني عند الله تعالى ، لا يبالون بعد ذلك ما تحملوا في سبيل الخمر من إيذاء وإهانة .

                          وقد كان من هؤلاء المدمنين أبو محجن الثقفي رضي الله عنه ولما أبلى في وقعة القادسية ما أبلى ، وكان نصر المسلمين على يده ، وترك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إقامة الحد [ ص: 68 ] عليه ، وكان قد اعتقله لسكره ، تاب إلى الله تعالى ، وعلل توبته في بعض الروايات بأنه كان يشرب عالما أن العقاب الشرعي يطهره ، وإذ حابوه به كما ظن تاب إلى الله تعالى خوفا من عقاب الآخرة ، ولم يترك سعد عقابه محاباة كما ظن بل لأن الحدود لا تقام في حال الغزو ، ولا في دار الحرب ، والتعزير يرجع إلى الاجتهاد ، والتحقيق أن عقاب السكر تعزير وأن سعدا أداه اجتهاده إلى ترك تعزير أبي محجن بعد أن بذل نفسه في سبيل الله وأبلى يومئذ ما أبلى ، ولا مطهر من الذنب أقوى من هذا . وهل يوجد في هذا العصر كثير من الناس يشابهون أبا محجن في قوة إيمانه وقوة عزيمته في دينه ؟

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية