( وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .
حكى الله تعالى في هذه الآيات بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب ، وروى التاريخ كثيرا من نوعها عن أمم العجم ، وهي اتخاذ شركاء الله من عالم الجن المستتر [ ص: 538 ] عن العيون ، واختراع نسل له من البنات والبنين ، حكى هذا بعد تفصيل ما تقدم فيما قبله من أنواع الآيات الدالة على توحده بالخلق والتدبير في عوالم الأرض والسماوات ، وتعقبه بإنكاره وتنزيه الخالق المبدع عنه ، وذلك قوله عز وجل :
( وجعلوا لله شركاء الجن ) أي وجعل هؤلاء المشركون لله سبحانه شركاء - وفسر هؤلاء الشركاء بالجن على طريق البدل النحوي - ولم يقل وجعلوا الجن شركاء لله ، بل قدم وأخر في النظم لإفادة أن محل الغرابة والنكارة أن يكون لله شركاء لا مطلق وجود الشركاء . ثم كون الشركاء من الجن ، فقدم الأهم فالمهم . ولو قال وجعلوا الجن شركاء لله لأفاد أن موضع الإنكار أن يكون الجن شركاء لله لكونهم جنا ، وليس الأمر كذلك ، بل المنكر أن يكون لله شريك من أي جنس كان . وفي هنا أقوال أحدها : أنهم الملائكة فقد عبدوهم ، روي هذا عن المراد بالجن قتادة والسدي . والثاني : أنهم الشياطين فقد أطاعوهم في أمور الشرك والمعاصي ، روي عن الحسن وسنشير إلى شاهد يأتي له بعد عشرين آية . والثالث : أن المراد بالجن إبليس ، فقد عبده أقوام وسموه ربا ، ومنهم من سماه إله الشر والظلمة ، وخص الباري بألوهية الخير والنور ، وروي عن أنه قال : إنها نزلت في الزنادقة الذين يقولون إن الله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والحيوان وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشر ، ورجحه ابن عباس الرازي وضعف ما سواه وقال : إن المراد بالزنادقة المجوس الذين قالوا : إن كل خير في العالم فهو من ( يزدان ) وكل شر فهو من ( أهرمن ) أي إبليس ، فأما فقطعي ، وأما كون الملائكة منهم فقيل : إنه حقيقي لأنهم من العوالم الخفية فتصدق عليهم كلمة الجن ، وقيل إنه مجازي ، وفسروا الجنة في قوله تعالى : ( كون إبليس والشياطين من الجن وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) 37 : 158 بالملائكة ، وقال بعض العرب : إنه تعالى صاهر إلى الجن فولدت سرواتهم له الملائكة وقد يقابل الجن بالملائكة كقوله تعالى في موضوع عبادة المشركين لهم : ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) 34 : 40 ، 41 فهذا مع آية الأنعام الآتية : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) 6 : 121 مما يرد إنكار الرازي لتسمية طاعة الشياطين عبادة . ( وخلقهم ) أي والحال أن الله تعالى قد خلق هؤلاء الجاعلين له الشركاء وليس لشركائهم فعل ولا تأثير في خلقهم ، أو خلق الشركاء المجعولين ، كما خلق غيرهم من العالمين ، فنسبة الجميع إليه واحدة ، وامتياز بعض المخلوقين على بعض في صفاته وخصائصه ، أو ما خلق مستعدا له من الأعمال التي يفضل بها غيره ، لا يخرجه عن كونه مخلوقا ، ولا يجعله أهلا لأن يكون إلها أو ربا .
[ ص: 539 ] ( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) أي واختلقوا له تعالى بحماقتهم وجهلهم بنين وبنات بغير علم ما بذلك كما سيأتي ، فسمى مشركو العرب الملائكة بنات الله ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) 9 : 30 وهاك بيان ذلك : الخرق والخزق والخرب والخرز ألفاظ فيها معنى الثقب بإنفاذ شيء في الجسم ، وقال الراغب : الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تدبر ولا تفكر ، قال تعالى : ( أخرقتها لتغرق أهلها ) 18 : 71 وهو ضد الخلق ، فإن الخلق هو فعل الشيء بتقدير ورفق ، والخرق بغير تقدير - وذكر الآية - وقوله بغير تقدير ، أي بغير نظام ولا هندسة هو الصواب ، وقوله قبله : من غير روية ولا تدبر ، خطأ ظاهر ، ويناسب هذا من معاني المادة الخرق " بالضم " وهو الحمق ضد الرفق . يقال : خرق زيد يخرق - بالضم فيهما - فهو أخرق وهي خرقاء . وقال صاحب اللسان : وخرق " من باب ضرب " الكذب وتخرقه وخرقه كله اختلقه ، وذكر الآية وأن نافعا قرأ " وخرقوا " بالتشديد وسائر القراء قرءوا بالتخفيف ، ثم قال : ويقال : خلق الكلمة واختلقها وخرقها واخترقها إذا ابتدعها كذبا انتهى . ولعل ما تقدم من الفرق بين الخلق والخرق في الأفعال ، يأتي نظيره في الأقوال ، فالخلق الكذب المقدر المنظم ، والخرق الكذب الذي لا تقدير فيه ولا نظام ، ولا روية ولا إنعام ، فهاهنا يظهر التقييد بنفي التدبر والنظر ، ويؤيده قوله تعالى : ( بغير علم ) قال في الكشاف : من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ وصواب ، ولكن رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية انتهى . وهو بيان وتوكيد لمعنى ( خرقوا ) فهذا التعبير من أدق بلاغة التنزيل ، وهو بيان معنى الشيء بما يدل على تزييفه ، وتنكير العلم هنا في حيز النفي " بغير " للدلالة على انسلاخ هؤلاء المشركين في خرقهم هذا عن كل ما يسمى علما ، فلا هم على علم بمعنى ما يقولون ولا على دليل يثبته ، ولا على علم بمكانه من الفساد والبعد من العقل ، ولا بمكانه من الشناعة والإزراء بمقام الألوهية والربوبية ، إذ لو علموا بذلك لما ارتضوه لأن أكثرهم مؤمنون بخالقهم وخالق كل شيء ، وهم يتقربون إليه بما اتخذوه له من شريك وولد ( سبحانه وتعالى عما يصفون ) أي هو منزه عن ذلك متعال عنه لأنه نقص ينافي انفراده بالخلق والتدبير ، وكونه ليس كمثله شيء ، وتقدم تحقيق معنى سبحان والتسبيح والتقديس في أواخر سورة المائدة ، والتعالي العلو والبعد عما لا يليق الذي يظهر للناظر المتفكر مرة بعد مرة بالنسبة إلى ما علا عنه وبعد عن مشابهته من الأشياء كلها ، فهو من قبيل " توافد القوم " في الجملة ، ولو كان له تعالى ولد لكان له جنس يعد جميع أفراده - ولا سيما أولاده - نظراء له فيه ، وهذا باطل عقلا ونقلا عن جميع رسل الله وجميع حكماء البشر [ ص: 540 ] وعقلائهم من جميع الأمم ، ولكن الذين اخترعوا للناس عقائد الوثنية في عصور الظلمات وأزمنة التأويلات ذهبوا هذه المذاهب من الأوهام ، ولا نعرف أول من جعل لله ولدا ولا منشأ اختراع هذه العقيدة ، وأقرب المآخذ لذلك ما بيناه في أواخر تفسير سورة النساء فيراجع هنالك في ج 6 تفسير .
وأما فقديمة في الملل الوثنية أيضا . ففي الخرافات اليونانية والرومانية يجعلونهم ثلاث مراتب . الأولى : الآلهة وأولهم المولد لهم أجينوس وهو الخالق لكل شيء عندهم وهو نفس ( زفس ) أو ( جوبتير ) . والثانية : توابع الشعوب والأقطار والبلاد ، فلكل منها رب من الجن مدبر له ومتصرف فيه ، وقد نصب عبادة الجن الروم لجني رومية تمثالا من الذهب . والثالثة : توابع الأفراد أي قرناؤهم . والهنود القدماء يقسمون الجن إلى قسمين أخيار وأشرار ، فيسمون الأخيار ( ديوه ) وهم عندهم فرق كالآلهة أشهرها ( الكنارة ) الذين دأبهم الترنم بمدائح ( بواسيتا ) ويليها ( الياكة ) الذين يقسمون الثروة والغنى بين الناس و ( الغندورة ) وهم العازفون للشمس ، ويتألف منهم أجواق في السماء تدخل فيها الكنارة فيسبون العقول بتسبيحهم على معازفهم . ومنهم " الإبسارة " وهن إناث يملأن العالم كله ، ومختاراتهن في سماء " أندرا " يرقصن الرقص البهج تحت أشجار الذهب والياقوت في جنة " مندانا " ومنهم " الراجينة " وهن قيان موكلات بالمعازف مقامهن في سماء " برهما " وعددهن 16 ألفا ومنهم الفعلة الإلهيون ويسمون " الجيدارة " وهم الذين بنوا قصر الآلهة وأنشأوا جميع المباني العجيبة في العالم . ويقسمون الجن الأشرار إلى طوائف أيضا ، منهم ( الديتية والأسورة والدنارة والرشاقة ) ويقولون : إن مقامهم في الظلمة وأنهم هاجموا الآلهة لينزلوهم عن عروشهم ففروا منهم إلى بلاد الساقة وأرادوا أن يسلبوهم شجر الحياة . وعقائد المانوية من الفرس في إلهي الخير والشر معروفة ، في أساطير الفرس أن " جنستان " أي بلاد الجن في غربي إفريقية ، وقيل غير ذلك ، وأساطير الأمم القديمة في الجن كثيرة .
وأما أهل الكتاب فقد لخص الدكتور جورج بوست في آخر الجزء الأول من قاموس الكتاب المقدس عقائدهم في الشيطان قال : الشيطان كائن حقيقي وهو أعلى شأنا من الإنسان ورئيس رتبة من الأرواح النجسة " 1 : كو 6 . 3 " ويخبر الكتاب المقدس بطبيعته وصفاته وحاله وكيفية اشتغاله وأعماله ومقاصده ونجاحه ونصيبه ، فلنا في شخصيته نفس البراهين التي لنا في شخصية الروح القدس والملائكة ، أما فروحية وهو ملاك يمتاز بكل ما تمتاز به هذه الرتبة من الكائنات إلى أن قال بعد ذكر كونه عدوا لله مطرودا من وجهه - غير أن طرده إلى عالم الظلمة لا يمنع اشتغاله في الأرض كإله هذا العالم وعدوا للإنسان وخالقه اهـ . طبيعة الشيطان
[ ص: 541 ] وقد تقدم في تفسير هذه السورة كلام في الملائكة والجن والشياطين مما يؤثر عن العرب في الجاهلية ، وما ورد في الكتاب والسنة ، وبعض ما قاله علماؤنا في ذلك والتقريب بينه وبين العلوم النفسية والمادية ، وعندنا أن ما يحفظ من أساطير الأولين والآخرين في ذلك له أصل من الوحي إلى أنبيائهم ، خلطوا فيه من بعدهم وجعلوا الحقيقة مجازا والمجاز حقيقة ، على نحو ما حققناه في تحريفهم معنى كلمة الله التي عبر بها عن التكوين فجعلوها ذاتا فاعلة خالقة وسماها بعضهم إلها وبعضهم " ابن الله " وتحريفهم معنى روح القدس كذلك ، وكلمة " ابن " المجازية كما بيناه في أواخر تفسير سورة النساء ( ج 3 تفسير ) فلا تتخذ موافقة الوحي لبعض تلك الأساطير شبهة على الوحي . وسنزيد مسألة عبادة الجن بيانا في مواضع أخرى إن شاء الله تعالى .