( وتقطعت بهم الأسباب ) : كناية عن أن لا منجى لهم من العذاب ، ولا مخلص ، ولا تعلق بشيء يخلص من عذاب الله ، وهو عام في كل ما يمكن أن يتعلق به . وللمفسرين في الأسباب أقوال : الوصلات عن قتادة ، والأرحام عن ابن عباس ، أو الأعمال المتلزمة عن وابن جريج ابن زيد والسدي ، أو العهود عن مجاهد وأبي روق ، أو وصلات الكفر ، أو منازلهم من الدنيا في الجاه عن ، أو أسباب النجاة ، أو المودات . والظاهر دخول الجميع في الأسباب ; لأنه لفظ عام . وفي هذه الجمل من أنواع البديع نوع يسمى الترصيع ، وهو أن يكون الكلام مسجوعا كقوله تعالى : ( ابن عباس ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ) ، وهو في القرآن كثير ، وهو في هذه الآية في موضعين . أحدهما : ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ) ، وهو محسن الحذف لضمير الموصول في قوله : " اتبعوا " ، إذ لو جاء اتبعوهم ، لفات هذا النوع من البديع . والموضع الثاني : ( ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ) ، ومثال ذلك في الشعر قول أبي الطيب :
[ ص: 474 ]
في تاجه قمر في ثوبه بشر في درعه أسد تدمى أظافره
وقولنا من قصيد عارضنا به بانت سعاد :
فالنحر مرمرة والنشر عنبرة والثغر جوهرة والريق معسول
( وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا ) ، المعنى : أنهم تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله ويتبرءوا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعا ، مثل ما تبرأ المتبوعون أولا منهم . ولو هنا : للتمني . قيل : وليست التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، ولذلك جاء جوابها بالفاء في قوله : ( فنتبرأ ) ، كما جاء جواب ليت في قوله : ( ياليتني كنت معهم فأفوز ) ، وكما جاء في قول الشاعر :
فلو نبش المقابر عن كليب فتخبر بالذنائب أي زير
والصحيح أن لو هذه هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأشربت معنى التمني ، ولذلك جاء بعد هذا البيت جوابها ، وهو قوله :
بيوم الشعثمين لقر عينا وكيف لقاء من تحت القبور
وأن مفتوحة بعد لو ، كما فتحت بعد ليت في نحو قوله :
يا ليت أنا ضمنا سفينه حتى يعود البحر كينونه
وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء ، وأنها إذا سقطت الفاء انجزم الفعل هذا الموضع ; لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط ، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضا ; لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جوابا للو التي أشربت معنى التمني إذا حذفت الفاء ; والسبب في ذلك أن كونها مشربة معنى التمني ليس أصلها ، وإنما ذلك بالحمل على حرف التمني الذي هو ليت ، والجزم في جواب ليت بعد حذف الفاء ، إنما هو لتضمنها معنى الشرط ، أو دلالتها على كونه محذوفا بعدها ، على اختلاف القولين ، فصارت لو فرع فرع ، فضعف ذلك فيها . والكاف في " كما " في موضع نصب ، إما نعتا لمصدر محذوف ، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف على القولين السابقين ، في غيرما موضع من هذا الكتاب . وما في " كما " مصدرية ، التقدير : تبرءوا مثل تبرئهم أو فنتبرأه ، أي فنتبرأ التبرؤ مشابها لتبرئهم . وقال ابن عطية : الكاف من قوله " كما " في موضع نصب على النعت ، إما لمصدر أو لحال ، تقديرها : متبرئين كما ، انتهى كلامه . أما قوله على النعت إما لمصدر فهو كلام واضح ، وهو الإعراب المشهور في مثل هذا . وأما قوله : أو لحال ، تقديرها : متبرئين كما - فغير واضح ، لأنا لو صرحنا بهذه الحال ، لما كان كما منصوبا على النعت لمتبرئين ; لأن الكاف الداخلة على ما المصدرية هي من صفات الفعل ، لا من صفات الفاعل . وإذا كان كذلك ، لم ينتصب على النعت للحال ; لأن الحال هنا من صفات الفاعل ، ولا حاجة لتقدير هذه الحال ، لأنها إذ ذاك تكون حالا مؤكدة ، ولا نرتكب كون الحال مؤكدة إلا إذا كانت ملفوظا بها ، أما أن تقدر حالا ونجعلها مؤكدة ، فلا حاجة إلى ذلك . وأيضا فالتوكيد ينافي الحذف ; لأن ما جيء به لتقوية الشيء لا يجوز حذفه أيضا . فلو صرح بهذه الحال لما ساغ في كما إلا أن تكون نعتا لمصدر محذوف ، أو حالا من الضمير المستكن في الحال المصرح بها ، مثال ذلك : هم محسنون إلي كما أحسنوا إلى زيد ، فكما أحسنوا ليس من صفات محسنين ، إنما هو من صفات الإحسان ، التقدير على الإعراب المشهور إحسانا مثل إحسانهم إلى زيد .
( كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ) : الكاف عند بعضهم في موضع رفع ، وقدروه الأمر كذلك ، أو حشرهم كذلك ، وهو ضعيف ; لأنه يقتضي زيادة الكاف وحذف مبتدأ ، وكلاهما على خلاف الأصل . والظاهر أن الكاف على بابها من التشبيه ، وأن التقدير : [ ص: 475 ] مثل إراءتهم تلك الأهوال ، ( كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، فيكون نعتا لمصدر محذوف ، فيكون في موضع نصب . وجعل صاحب المنتخب ذلك من قوله : " كذلك " ، إشارة إلى تبرؤ بعضهم من بعض . والأجود تشبيه الإراءة بالأراءة ، وجوزوا في يريهم أن تكون بصرية عديت بالهمزة ، فتكون " حسرات " منصوبا على الحال ، وأن تكون قلبية ، فتكون مفعولا ثالثا ، قالوا : ويكون ثم حذف مضاف ، أي على تفريطهم . وتحسر : يتعدى بعلى ، تقول : تحسرت على كذا ، فعلى هنا متعلقة بقوله : " حسرات " . ويحتمل أن تكون في موضع الصفة ، فالعامل محذوف ، أي حسرات كائنة عليهم ، وعلى تشعر بأن الحسرات مستعلية عليهم . و " أعمالهم " ، قيل : هي الأعمال التي صنعوها ، وأضيفت إليهم من حيث عملوها ، وأنهم مأخوذون بها . وهذا على قول من يقول : إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، وهذا معنى قول الربيع وابن زيد : أنها الأعمال السيئة التي ارتكبوها ، فوجب بهم بها النار . وقال ابن مسعود والسدي : المعنى أعمالهم الصالحة التي تركوها ، ففاتتهم الجنة ، وأضيفت إليهم من حيث كانوا مأمورين بها . قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إلى بيوتهم فيها ، لو أطاعوا الله تعالى ، فيقال لهم : تلك مساكنكم لو أطعتم الله تعالى ، ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم ، فذلك حين يندمون . وهذا معنى قول بعضهم ، إن أعمالهم قد أحبط ثوابها كفرهم ; لأن الكافر لا يثاب مع كفره . ألا ترى إلى ابن جدعان كان يصل الرحم ويطعم المسكين ، وسئل : هل ذلك نافعه ؟ قال : " لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " ، ومنه قوله تعالى : ( قوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذكر له أن وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) . وقيل : المعنى أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم . والظاهر أنها الأعمال التي اتبعوا فيها رؤساءهم وقادتهم ، وهي الكفر والمعاصي . وكانت حسرة عليهم ; لأنهم رأوها مسطورة في صحائفهم ، وتيقنوا الجزاء عليها ، وكان يمكنهم تركها والعدول عنها ، لو شاء الله .
( وما هم بخارجين من النار ) : هذا يدل على دخول النار ، إذ لا يقال : ما زيد بخارج من كذا إلا بعد الدخول . ولم يتقدم في الآية نص على دخولهم ، إنما تقدم رؤيتهم العذاب ومفاوضة بسبب تبرؤ المتبوعين من الأتباع ، وجاء الخبر مصحوبا بالباء الدالة على التوكيد . وقال : هم بمنزلته في قوله : الزمخشري
هم يفرشون اللبد كل طمره
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم ، لا على الاختصاص . انتهى كلامه ، وفيه دسيسة اعتزال ; لأنه إذا لم يدل على الاختصاص ، لا يكون فيه رد لقول المعتزلة ، إن الفاسق يخلد في النار ولا يخرج منها . وأما قول صاحب المنتخب : إن الأصحاب احتجوا على أن ، إلى آخر كلامه ، فهو غير مسلم ، ولا دلالة في الآية على شيء من المذهبين ; لأنك إذا قلت : ما زيد بمنطلق ، وإن " ما " في ذلك دلالة على نفي انطلاق زيد ، وأما أن في ذلك دلالة على اختصاصه بنفي الانطلاق ، أو مشاركة غيره له في نفي الانطلاق ، فلا إنما يفهم ذلك ، أعني الاختصاص بنفي الخروج من النار ، إذ المشاركة في ذلك من دليل خارج ، وهل النفي إلا مركب على الإيجاب ؟ فإذا قلت : زيد منطلق ، فليس في هذا دليل على شيء من الاختصاص ، ولا شيء من المشاركة ، فكذلك النفي ، وكونه قابلا للخصومة والاشتراك ، يدل على ذلك . ألا ترى أنك تقول : زيد منطلق لا غيره ، وزيد منطلق مع غيره ؟ صاحب الكبيرة من أهل القبلة
( وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة ) إخباره تعالى بأن الصفا والمروة من معالمه التي جعلها محملا لعبادته ، وإن كان قد سبق غشيان المشركين لها ، وتقربهم بالأصنام عليها . وصرح برفع الإثم عمن طاف بهما ممن حج أو اعتمر . ثم ذكر أن من تبرع بخير ، فإن الله شاكر لفعله ، عليم بنيته ، لما كان التطوع يشتمل على فعل ونية ، ختم بهاتين الصفتين المتناسبتين . ثم أخبر تعالى عمن كتم ما أنزل الله من [ ص: 476 ] الحكم الإلهي من بعد ما بينه في كتابه لعنه الله وملائكته ومن يسوغ منه اللعن من صالحي عباده . ثم استثنى من تاب وأصلح ، وبين ما كتم . ولم يكتف بالتوبة فقط حتى أضاف إليها الإصلاح ; لأن كتم ما أنزل الله من أعظم الإفساد ، إذ فيه حمل الناس على غير المنهج الشرعي . وأضاف التبيين لما كتم حتى يتضح للناس وضوحا بينا ما كان عليه من الضلال ، وأنه أقلع عن ذلك ، وسلك نقيض فعله الأول ، فكان ذلك أدعى لزوال ما قرر أولا من كتمان الحق ، وبضدها تتبين الأشياء ، ثم أخبر تعالى عن هؤلاء المستثنين أنه يتوب عليهم ، وأنه تعالى لا يتعاظم عنده ذنب ، وإن كان أعظم الذنوب ، إذا تاب العبد منه . ثم أخبر تعالى أنه التواب الرحيم ، بصفتي المبالغة التي في فعال وفعيل . ولما ذكر تعالى حال المؤمنين المتسمين بالصبر والصلاة والحج ، وغير ذلك من أعمال البر ، وحال من ارتكب المعاصي ، ثم أقلع عن ذلك وتاب إلى الله . ذكر حال من وافى على الكفر ، وأنه تحت لعنة الله وملائكته والناس ، وأنهم خالدون في اللعنة ، غير مخفف عنهم العذاب ، ولا مرجؤن إلى وقت . ثم لما كان كفر معظم الكفار إنما هو لاتخاذهم مع الله آلهة " أجعل الآلهة إلها واحدا " ؟ " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " ؟ " وقالت اليهود عزير ابن الله " ، وفي الحديث : " أنهم يسألون فيقولون كنا نعبد عزيرا .
أخبر تعالى أن الإله هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ ، ولا له مثيل في صفاته . ثم حصر الإلهية فيه ، فتضمن ذلك أنه هو المثيب المعاقب ، فوصف نفسه بهاتين الصفتين من الرحمانية والرحيمية . ثم أخذ في ذكر ما يدل على الوحدانية والانفراد بالإلهية . فبدأ بذكر اختراع الأفلاك العلوية ، والجرم الكثيف الأرضي ، وما يكون فيهما من اختلاف ما به السكون والحركة ، من الليل والنهار الناشئين عما أودع الله تعالى في العالم العلوي ، واختلاف الفلك ذاهبة وآيبة بما ينفع الناس الناشئ ذلك عما أودع في العالم السفلي ، وما يكون مشتركا بين العالمين ، من إنزال الماء ، وتشقق الأرض بالنبات ، وانتشار العالم فيها . ولما ذكر أشياء في الأجرام العلوية ، وأشياء في الجرم الأرضي ، ذكر شيئا مما هو بين الجرمين ، وهو تصريف الرياح والسحاب ، إذ كان بذلك تتم النعمة المقتضية لصلاح العالم في منافعهم البحرية والبرية . ثم ذكر أن هذا كله هي آيات للعاقل ، تدله على وحدانية الله تعالى واختصاصه بالإلهية ، إذ من عبدوه من دون الله يعلمون قطعا أنه لا يمكنه اقتدار على شيء ما مما تضمنته هذه الآيات ، وأنهم بعض ما حوته الدائرة العلوية والدائرة السفلية ، وأن نسبتهم إلى من لم يعبدوه من سائر المخلوقات نسبة واحدة في الافتقار والتغير ، فلا مزية لهم على غيرهم إلا عند من سلب نور العقل ، وغشيته ظلمات الجهل .
ثم ذكر تعالى ، بعد ذكر هذه البينات الواضحات الدالة على الوحدانية واستحقاق العبادة ، أن من الناس متخذي أنداد ، وأنهم يؤثرونهم ويحبونهم مثل محبة الله ، فهم يسوون بين الخالق والمخلوق في المحبة ، " أفمن يخلق كمن لا يخلق " . ثم ذكر أن من المؤمنين أشد حبا لله من هؤلاء لأصنامهم . ثم خاطب من خاطب بقوله : " ولو يرى الذين ظلموا " ، حين عاينوا نتيجة اتخاذهم الأنداد ، وهو العذاب الحال بهم ، أي : لرأيت أمرا عظيما . ثم نبه على أن أندادهم لا طاقة لها ولا قوة بدفع العذاب عمن اتخذوهم ; لأن جميع القوى والقدر هي لله تعالى . ثم ذكر تعالى تبرؤ المتبوعين من التابعين وقت رؤية العذاب وزالت المودات التي كانت بينهم ، وأن التابعين تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا ويتبرءوا من متبوعيهم حيث لا ينفع التمني ولا يمكن أن يقع ، فهو تمن مستحيل ; لأن الله تعالى قد حكم وأمضى أن لا عودة إلى الدنيا . ثم ذكر تعالى أنهم بعد رؤيتهم العذاب وتقطع الأسباب ، أراهم أعمالهم ندامات حيث لا ينفع الندم ، ليتضاعف بذلك الألم . ثم ختم ذلك بما ختم لهم من العذاب السرمدي والشقاء الأبدي . نعوذ بالله من [ ص: 477 ] سطا نقماته ، ونستنزل من كرمه العميم نشر رحماته .