الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت والخليفة الحاكم العباسي ، وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن قلاوون ، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين سلار ، وبالشام الأمير جمال الدين آقوش الأفرم . وفي أولها عزل الأمير قطلبك عن نيابة البلاد الساحلية ، وتولاها الأمير سيف الدين أسندمر ، وعزل عن وزارة مصر شمس الدين الأعسر ، وتولى سيف الدين آقجبا المنصوري نيابة غزة وجعل عوضه بالقلعة الأمير سيف الدين بهادر السنجري وهو من البرجية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي صفر رجعت رسل ملك التتر من مصر إلى دمشق فتلقاهم نائب [ ص: 6 ] السلطنة والجيش والعامة . وفي نصف صفر ولي تدريس النورية الشيخ صدر الدين علي البصراوي الحنفي عوضا عن الشيخ ولي الدين السمرقندي ، وإنما كان وليها ستة أيام ، ودرس بها أربعة دروس بعد بني الصدر سليمان ، توفي ، وكان من كبار الصالحين ، يصلي كل يوم مائة ركعة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول جلس قاضي القضاة ، وخطيب الخطباء : بدر الدين بن جماعة بالخانقاه السميساطية ، شيخ الشيوخ بها عن طلب الصوفية له في ذلك ، ورغبتهم فيه ، وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف بن حمويه الحموي ، وفرحت الصوفية به ، وجلسوا حوله ، ولم تجتمع هذه المناصب قبله لغيره ، ولا بلغنا أنها اجتمعت إلى أحد بعده إلى زماننا هذا : القضاء ، والخطابة ، ومشيخة الشيوخ .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول ، قتل الفتح أحمد بن البققي بالديار المصرية ، حكم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقصه للشريعة المطهرة ، واستهزائه بالآيات المحكمات ، ومعارضة [ ص: 7 ] المشتبهات بعضها ببعض ، ويذكر عنه أنه كان يحل المحرمات من اللواط ، والخمر ، وغير ذلك ، لمن كان يجتمع به من الفسقة من الترك وغيرهم من الجهلة ، هذا ، وقد كان لديه فضيلة ، وله اشتغال وهيئة جميلة في الظاهر ، وبزته ولبسته جيدة ، ولما أوقف عند شباك دار الحديث الكاملية بين القصرين ، استغاث بالقاضي تقي الدين بن دقيق العيد ، وقال : ما تعرف مني ؟ فقال : إنما أعرف منك الفضيلة ، ولكن حكمك إلى القاضي زين الدين ، فأمر القاضي للوالي أن يضرب عنقه ، فضرب عنقه ، وطيف برأسه في البلد ، ونودي عليه : هذا جزاء من طعن في الله ورسوله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ علم الدين البرزالي في " تاريخه " : وفي وسط شهر ربيع الأول ، ورد كتاب من بلاد حماة ، من جهة قاضيها ، يخبر فيه أنه وقع في هذه الأيام ببارين من عمل حماة ، برد كبار على صور حيوانات مختلفة ، منها : سباع ، وحيات ، وعقارب ، وطيور ، ومعز ، وبلشون ، ورجال في أوساطهم حوائص ، وأن ذلك ثبت بمحضر عند قاضي الناحية ، ثم نقل ثبوته إلى قاضي حماة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الثلاثاء عاشر ربيع الآخر شنق الشيخ علي الحوراني ، بواب [ ص: 8 ] الظاهرية على بابها ، وذلك أنه اعترف بقتل الشيخ زين الدين السمرقندي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي النصف منه حضر القاضي بدر الدين بن جماعة تدريس الناصرية الجوانية عوضا عن كمال الدين بن الشريشي ، وذلك أنه ثبت محضر أنها لقاضي الشافعية بدمشق ، فانتزعها من يد ابن الشريشي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى قدم الصدر علاء الدين بن شرف الدين بن القلانسي على أهله من بلاد التتر بعد الأسر سنتين وأيام ، وقد حبس مدة ، ثم لطف الله به ، وتلطف حتى تخلص منهم ، ورجع إلى أهله ، ففرحوا به .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي سادس جمادى الآخرة قدم البريد من القاهرة وأخبر بوفاة أمير المؤمنين : الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي ، وأن ولده ولي الخلافة من بعده ، وهو أبو الربيع سليمان ، ولقب بالمستكفي بالله ، وأنه حضر جنازته الناس كلهم مشاة ، ودفن بالقرب من الست نفيسة وله أربعون سنة في الخلافة . وقدم مع البريد تقليد بالقضاء لشمس الدين بن الحريري الحنفي ، وبنظر الدواوين لشرف الدين بن مزهر ، واستمرت الخاتونية الجوانية بيد القاضي جلال الدين بن حسام الدين بإذن نائب السلطنة . وفي يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة خطب للخليفة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 9 ] المستكفي بالله ، وترحم على والده بجامع دمشق ، وأعيدت الناصرية إلى ابن الشريشي ، وعزل عنها ابن جماعة ، ودرس بها يوم الأربعاء الرابع عشر من جمادى الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي شوال قدم إلى الشام جراد عظيم ، أكل الزرع والثمار ، وجرد الأشجار حتى صارت مثل العصي ، ولم يعهد مثل هذا ، وفي هذا الشهر عقد مجلس لليهود الخيابرة ، وألزموا بأداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود ، فأحضروا كتابا معهم يزعمون أنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضع الجزية عنهم ، فلما وقف عليه الفقهاء ، تبينوا أنه مكذوب مفتعل لما فيه من الألفاظ الركيكة ، والتواريخ المخبطة ، واللحن الفاحش ، وحاققهم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبين لهم خطأهم وكذبهم ، وأنه مزور مكذوب ، فأنابوا إلى أداء الجزية ، وخافوا من أن يستعاد عليهم بالسنين الماضية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وقد وقفت أنا على هذا الكتاب ، فرأيت فيه شهادة سعد بن معاذ عام خيبر ، وقد توفي سعد قبل ذلك بنحو من ثلاث سنين ، وشهادة معاوية بن أبي سفيان ، ولم يكن أسلم إذ ذاك ، وإنما أسلم بعد ذلك بنحو من سنتين ، وفيه : وكتب علي بن أبو طالب ، وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين علي ؛ لأن علم النحو إنما أسند إليه من طريق أبي الأسود الدؤلي عنه ، وقد جمعت فيه جزءا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 10 ] مفردا ، وذكرت ما جرى فيه أيام القاضي الماوردي ، وكبار أصحابنا في ذلك العصر ، وقد ذكره في " الحاوي " ، وصاحب " الشامل " في كتابه ، وغير واحد ، وبينوا خطأه ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا الشهر ثار جماعة من الحسدة على الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وشكوا منه أنه يقيم الحدود ، ويعزر ، ويحلق رءوس الصبيان ، وتكلم هو أيضا في من يشكو منه ذلك ، وبين خطأهم ، ثم سكنت الأمور .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذي القعدة ضربت البشائر بقلعة دمشق أياما بسبب فتح أماكن من بلاد سيس عنوة ، ففتحها المسلمون ، ولله الحمد ، وفيه قدم عز الدين بن ميسر على نظر الدواوين عوضا عن ابن مزهر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة حضر عبد السيد بن المهذب ديان اليهود إلى دار العدل ، ومعه أولاده ، فأسلموا كلهم ، فأكرمهم نائب السلطنة ، وأمر أن يركب بخلعة وخلفه الدبادب تضرب والبوقات إلى داره ، وعمل ليلتئذ في داره ختمة عظيمة حضرها القضاة والعلماء ، وأسلم على يديه جماعة كبيرة من اليهود ، وخرجوا يوم العيد كلهم يكبرون مع المسلمين ، وأكرمهم [ ص: 11 ] الناس إكراما زائدا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقدمت رسل التتار في سابع عشر ذي الحجة ، فنزلوا بالقلعة ، وسافروا إلى القاهرة بعد ثلاثة أيام ، وبعد مسيرهم بيومين مات أرجواش ، وبعد موته بيومين قدم الجيش من بلاد سيس ، وقد فتحوا جانبا منها ، فخرج نائب السلطنة والجيش لتلقيهم ، وخرج الناس للفرجة على العادة ، وفرحوا بقدومهم ونصرهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية