[ ص: 249 ] أبي العباس السفاح خلافة
لما بلغ أهل الكوفة مقتل إبراهيم بن محمد أراد أبو سلمة الخلال أن يحول الخلافة إلى آل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فغلبه بقية النقباء والأمراء على أمره ، وأحضروا أبا العباس السفاح وسلموا عليه بالخلافة ، وذلك بالكوفة وكان عمره إذ ذاك ستا وعشرين سنة ، وكان أول من سلم عليه بالخلافة أبو سلمة الخلال ، وذلك ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة ، فلما كان وقت صلاة الجمعة خرج على برذون أبلق ، والجنود ملبسة معه ، حتى دخل دار الإمارة ، ثم خرج إلى المسجد ، فصلى بالناس ، ثم صعد المنبر ، وبايعه الناس يومئذ وهو على المنبر في أعلاه ، وعمه أبو العباس السفاح داود بن علي واقف دونه بثلاث درج ، وتكلم السفاح وكان أول ما نطق به أن قال : الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكرمه وشرفه وعظمه ، واختاره لنا ، وأيده بنا ، وجعلنا أهله وكهفه والقوام به والذابين عنه والناصرين له ، وألزمنا كلمة التقوى ، وجعلنا أحق بها وأهلها ، خصنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته ، واشتقنا من نبعته ، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع ، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابا يتلى عليهم ، فقال تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا [ الأحزاب : 33 ] . وقال : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [ الشورى : 23 ] . [ ص: 250 ] وقال : وأنذر عشيرتك الأقربين [ الشعراء : 214 ] . وقال : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى [ الحشر : 7 ] . فأعلمهم الله عز وجل فضلنا ، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا ، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا ; تكرمة لنا ، وفضلة علينا ، والله ذو الفضل العظيم ، وزعمت السبئية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا ، فشاهت وجوههم ، بم ولم أيها الناس؟ ! وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم ، وبصرهم بعد جهالتهم ، وأنقذهم بعد هلكتهم ، وأظهر بنا الحق ، وأدحض بنا الباطل ، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا ، ورفع بنا الخسيسة ، وأتم النقيصة ، وجمع الفرقة ، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر ومواساة في دنياهم ، وإخوانا على سرر متقابلين في أخراهم ، فتح الله ذلك منة ومنحة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فلما قبضه الله إليه قام بذلك الأمر من بعده أصحابه ، وأمرهم شورى بينهم ، فحووا مواريث الأمم ، فعدلوا فيها ، ووضعوها مواضعها ، وأعطوها أهلها ، وخرجوا خماصا منها ، ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها وتداولوها ، فجاروا فيها ، واستأثروا بها ، وظلموا أهلها ، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه ، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا ، ورد علينا حقنا ، وتدارك بنا أمتنا ، وولي نصرنا والقيام بأمرنا ; ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض ، وختم بنا كما افتتح بنا ، وإني لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير ، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح ، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله ، يا أهل الكوفة ، أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا ، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا ، [ ص: 251 ] وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم ، فاستعدوا ، فأنا السفاح الهائج ، والثائر المبير .
وكان به وعك ، فاشتد عليه حتى جلس على المنبر ، ونهض عمه داود فقال : الحمد لله شكرا شكرا شكرا الذي أهلك عدونا ، وأصار إلينا ميراثنا من نبينا ، أيها الناس ، الآن انقشعت حنادس الظلمات ، وانكشف غطاؤها ، وأشرقت أرضها وسماؤها ، وطلعت الشمس من مطلعها ، وبزغ القمر من مبزغه ، ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم ; أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم ، أيها الناس ، إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجينا ولا عقيانا ، ولا لنحفر نهرا ، ولا لنبني قصرا ، وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقنا ، والغضب لبني عمنا ، ولسوء سيرة بني أمية فيكم ، واستذلالهم لكم ، واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ، فلكم علينا ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس أن نحكم فيكم بما أنزل الله ، ونعمل بكتاب الله ، ونسير في العامة منكم والخاصة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تبا تبا لبني أمية وبني مروان آثروا العاجلة على الآجلة ، والدار الفانية على الدار الباقية ، فركبوا الآثام وظلموا الأنام ، وارتكبوا المحارم ، وغشوا الجرائم ، وجاروا في سيرتهم في العباد ، وسنتهم في البلاد ، التي بها استلذوا تسربل الأوزار ، وتجلبب الآصار ، ومرحوا في أعنة [ ص: 252 ] المعاصي ، وركضوا في ميادين الغي ; جهلا باستدراج الله ، وأمنا لمكر الله ، فأتاهم بأس الله بياتا وهم نائمون ، فأصبحوا أحاديث ، ومزقوا كل ممزق ، فبعدا للقوم الظالمين ، وأدالنا الله من مروان وقد غره بالله الغرور ، وأرسل لعدو الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه ، أظن عدو الله أن لن نقدر عليه؟ ! فنادى حزبه ، وجمع مكايده ، ورمى بكتائبه ، فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وشماله من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله ، ومحق ضلاله ، وجعل دائرة السوء به ، وأحيا شرفنا وعزنا ، ورد إلينا حقنا وإرثنا ، أيها الناس ، إن أمير المؤمنين - نصره الله نصرا عزيزا - إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة ، لأنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره ، وإنما قطعه عن استتمام الكلام بعد أن اسحنفر فيه ، شدة الوعك ، فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية ، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن ، وخليفة الشيطان ، المتبع للسفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد صلاحها ، الشاب المتكهل ، المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار ، الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى ، ومناهج التقى . قال : فعج الناس له بالدعاء ، ثم قال : واعلموا يا أهل الكوفة أنه لم يصعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد هذا - وأشار بيده إلى السفاح - واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام ، والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا . ثم نزل أبو العباس ، وداود حتى دخلا القصر . ثم دخل الناس [ ص: 253 ] يبايعون إلى العصر ، ثم من بعد العصر إلى الليل .
ثم إن أبا العباس خرج فعسكر بظاهر الكوفة ، واستخلف عليها عمه داود بن علي ، وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون بن يزيد ، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة ، وهو يومئذ بواسط محاصر ابن هبيرة ، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن ، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام بالأهواز وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف . وأقام هو بالعسكر أشهرا ، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية في قصر الإمارة ، وقد تنكر لأبي سلمة الخلال وذلك لما كان بلغه عنه من العدول بالخلافة عن بني العباس إلى آل علي بن أبي طالب . والله سبحانه وتعالى أعلم .