والصنف الثاني : لم تبلغهم دعوة الإسلام ، وقل أن يكونوا اليوم لما قد أظهر الله من دعوة رسوله ، إلا أن يكون قوم من وراء من يقابلنا من الترك والروم في مبادئ المشرق وأقاصي المغرب لا نعرفهم فيحرم علينا الإقدام على قتالهم غرة وبياتا بالقتل والتحريق ، وأن نبدأهم بالقتل قبل إظهار دعوة الإسلام لهم وإعلامهم من معجزات النبوة وإظهار الحجة بما يقودهم إلى الإجابة ، فإن قاموا على الكفر بعد ظهورها لهم حاربهم وصاروا فيه كمن بلغتهم الدعوة ، قال الله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } .
يعني ادع إلى دين ربك بالحكمة ، وفيها تأويلان :
أحدهما : بالنبوة .
والثاني : بالقرآن . قال : وفي الموعظة الحسنة تأويلان : الكلبي
أحدهما القرآن في لين من القول قاله ، والثاني ما فيه من الأمر والنهي . الكلبي
{ وجادلهم بالتي هي أحسن } أي يبين لهم الحق ويوضح لهم الحجة ، فإن بدأ بقتالهم قبل دعائهم إلى الإسلام وإنذارهم بالحجة وقتلهم غرة وبياتا ضمن ديات نفوسهم وكانت على الأصح من مذهب كديات المسلمين ، وقيل بل كديات الكفار على [ ص: 47 ] اختلافها اختلاف معتقدهم . الشافعي
وقال : لا دية على قتلهم ونفوسهم هدر ، وإذا تقاتلت الصفوف في الحرب جاز لمن قاتل من المسلمين أن يعلمهم بما يشتهر به بين الصفين ويتميز به من جميع الجيش بأن يركب الأبلق وإن كانت خيول الناس دهما وشقرا ، ومنع أبو حنيفة من الإعلام ركوب الأبلق وليس لمنعه من ذلك وجه ، روى أبو حنيفة عبد بن عون الله بن عمير عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أبي إسحاق بدر : { } . تسوموا فإن الملائكة قد تسومت
. فقد { ويجوز أن يجيب إلى البراز إذا دعي إليه دعا أبي بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البراز يوم أحد فبرز إليه فقتله } ، وأول حرب شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، برز فيها من شرفاء قريش عتبة بن ربيعة وابنه الوليد وأخوه شيبة ودعوا إلى البراز ، فبرز إليهم من الأنصار عوف ومسعود ابنا عفراء فقالوا ليبرز أكفاؤنا إلينا فما نعرفكم ، فبرز إليهم ثلاثة من وعبد الله بن رواحة بني هاشم ، برز إلى علي بن أبي طالب الوليد فقتله ، وبرز إلى حمزة بن عبد المطلب عتبة فقتله وبرز إلى عبيدة بن الحارث شيبة فاختلفا بضربتين أثبت كل واحد منهما صاحبه ومات شيبة لوقته واحتمل عبيدة حيا قد قدت رجله فمات بالصفراء فقال فيه من المتقارب : كعب بن مالك
أيا عين جودي ولا تبخلي بدمعك وكفا ولا تنزري على سيد هدنا هلكه
كريم المشاهد والعنصري عبيدة أمسى ولا نرتجيه
لعرف غدا ولا منكر وقد كان يحمي عداة القتال
حامية الجيش بالمبتر
نحن جزيناكم بيوم بدر والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ولا أخي وعمه وبكر
[ ص: 48 ] شفيت نفسي وقضيت نذري شفيت وحشي غليل صدري
فشكر وحشي علي عمري حتى تضم أعظمي في قبري
ولقد دنوت إلى النداء لجمعهم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجع موقف القرن المناجز
إني كذلك لم أزل متسرعا نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز
أبشر أتاك يجيب صوتك في الهزاهز غير عاجز
ذو نية وبصيرة يرجو الغداة نجاة فائز
إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز
من طعنة نجلاء يبهر ذكرها عند الهزائز
حكى { محمد بن إسحاق أحد بين درعين وأخذ سيفا فهزه وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه رضي الله عنه فقال أنا آخذه بحقه فأعرض عنه ثم هزه الثانية وقال من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه عمر بن الخطاب وقال أنا آخذه بحقه فأعرض عنه فوجدا في أنفسهما ، ثم عرضه الثالثة وقال من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه الزبير بن العوام أبو دجانة سماك بن خرشة فقال وما حقه يا رسول الله ؟ قال أن تضرب في العدو حتى ينحني ، فأخذه منه وأعلم بعصابة حمراء كان إذا أعلم بها علم الناس أنه سيقاتل ويبلي ، ومشى إلى الحرب وهو يقول من السريع :
أنا الذي أخذته في رقه إذ قال من يأخذه بحقه
قبلته بعدله وصدقه للقادر الرحمن بين خلقه
المدرك الفائض فضل رزقه من كان في مغربه وشرقه
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح من النخيل
ألا أقوم الدهر في الكبول أخذت سيف الله والرسول
وإذا جازت المبارزة بما استشهدنا من حال المبتدئ بها وأجيب إليها كان لتمكين المبارزة شرطان :
أحدهما أن يكون ذا نجدة وشجاعة يعلم من نفسه [ ص: 50 ] أنه لن يعجز عن مقاومة عدوه ، فإن كان بخلافه منع .
والثاني أن لا يكون زعيما للجيش يؤثر فقده فيهم ، فإن فقد الزعيم المدبر مفض إلى الهزيمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أقدم على البراز ثقة بنصر الله سبحانه وإنجاز وعده وليس ذلك لغيره ; ويجوز لأمير الجيش إذا حض على الجهاد أن يحرض للشهادة من الراغبين فيها من يعلم أن مثله في المعركة يؤثر أحد أمرين إما تحريض المسلمين على القتال حمية له ، وإما تخذيل المشركين بجراءة عليهم في نصرة الله .
حكى { محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من العريش يوم بدر فحرض الناس على الجهاد وقال : لكل امرئ ما أصاب ؟ وقال والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل ، فيقتل صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة } فقال عمير بن حمام من بني مسلمة وفي يده تمرات يأكلهن : بخ بخ ، ما بقي بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء القوم ثم قذف بالتمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل . رحمه الله ، وهو يقول من السريع :
ركضا إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد