[ ص: 223 ] الباب الخامس عشر : في إحياء الموات واستخراج المياه
ملكه بإذن الإمام وبغير إذنه . وقال من أحيا مواتا : لا يجوز إحياؤه إلا بإذن الإمام ; لقول النبي عليه الصلاة والسلام : { أبو حنيفة } . وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : { ليس لأحد إلا ما طابت به نفس إمامه } : دليل على أن من أحيا أرضا مواتا فهي له . ملك الموات معتبر بالإحياء دون إذن الإمام
والموات عند كل ما لم يكن عامرا ولا حريما لعامر فهو موات ، وإن كان متصلا بعامر . وقال الشافعي : الموات ما بعد من العامر ، ولم يبلغه الماء . وقال أبو حنيفة : الموات كل أرض إذا وقف على أدناها من العامر مناد بأعلى صوته لم يسمع أقرب الناس إليها في العامر ، وهذان القولان يخرجان عن المعهود في اتصال العمارات ويستوي في إحياء الموات جيرانه والأباعد . أبو يوسف
وقال : جيرانه من أهل العامر أحق بإحيائه من الأباعد ; وصفة الإحياء معتبرة بالعرف فيما يراد له الإحياء ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلق ذكره إحالة على العرف المعهود فيه ; فإن مالك كان إحياؤه بالبناء والتسقيف ; لأنه أول كمال العمارة التي يمكن سكناها . وإن أراد إحياء الموات للسكنى اعتبر فيه ثلاثة شروط : أحدها جمع التراب المحيط بها حتى يصير حاجزا بينها وبين غيرها . أراد إحياءها للزرع والغرس
والثاني سوق الماء [ ص: 224 ] إليها إن كانت يبسا ، وحبسه عنها إن كانت بطائح ; لأن إحياء اليبس بسوق الماء إليه ، وإحياء البطائح بحبس الماء عنها حتى يمكن زرعها وغرسها في الحالين .
والثالث : حرثها : والحرث يجمع إثارة المعتدل وكسح المستعلي ، وطم المنخفض ، فإذا استكملت هذه الشروط الثلاثة كمل الإحياء وملك المحيي ، وغلط بعض أصحاب فقال : لا يملكه حتى يزرعه أو يغرسه ، وهذا فاسد ; لأنه بمنزلة السكنى التي لا تعتبر في تملك المسكون ، فإن زارع عليها بعد الإحياء من قام بحرثها وزراعتها كان المحيي مالكا للأرض والمثير مالكا للعمارة ، فإن أراد مالك الأرض بيعها جاز ، وإن أراد مالك العمارة بيعها فقد اختلف في جوازه فقال الشافعي : إن كان له إثارة جاز له بيعها ، وإن لم يكن له إثارة لم يجز . وقال أبو حنيفة : يجوز له بيع العمارة على الأحوال كلها ويجعل الأكار شريكا في الأرض بعمارته . مالك
وقال : لا يجوز له بيع العمارة بحال إلا أن يكون له فيها أعيان قائمة كشجر أو زرع فيجوز له بيع الأعيان دون الإثارة ، وإذا تحجر على موات كان أحق بإحيائه من غيره ، فإن تغلب عليه من أحياه كان المحيي أحق به من المتحجر ، فإن الشافعي لم يجز على الظاهر من مذهب أراد المتحجر على الأرض بيعها قبل إحيائها ، وجوزه كثير من أصحابه ; لأنه لما صار بالتحجير عليها أحق بها جاز له بيعها كالأملاك ، فعلى هذا لو باعها فتغلب عليها في يد المشتري من أحياها فقد زعم الشافعي من أصحاب ابن أبي هريرة أن ثمنها لا يسقط عن المشتري لتلف ذلك في يده بعد قبضه . الشافعي
وقال غيره من أصحابه القائلين بجواز بيعه : إن الثمن يسقط عنه ; لأن قبضه لم يستقر ، فأما إذا تحجر وساق الماء ولم يحرث فقد ملك الماء ، وما جرى فيه من الموات ، وحريمه ولم يملك ما سواه وإن كان به أحق ، وجاز له بيع ما جرى فيه الماء . وفي جواز بيع ما سواه من المحجور ما قدمناه من الوجهين .
وما لا يجوز أن يضرب عليه خراج سواء سقي بماء العشر أو بماء الخراج . أحيي من الموات معشور
وقال أبو حنيفة : إن ساق إلى ما أحياه ماء العشر كانت أرض عشر ، وإن ساق إليها ماء الخراج كانت أرض خراج . وأبو يوسف
وقال : إن محمد بن الحسن [ ص: 225 ] فهي أرض خراج ، وإن كانت على أنهار أجراها الله عز وجل كدجلة والفرات فهي أرض عشر ، وقد أجمع العراقيون وغيرهم على أن ما أحيي من موات كانت الأرض المحياة على أنهار حفرتها الأعاجم البصرة وسباخها أرض عشر . أما على قول فلأن محمد بن الحسن دجلة البصرة مما أجراه الله - تعالى - من الأنهار وما عليها من الأنهار المحدثة فهي محياة احتفرها المسلمون في الموات . وأما على قول فقد اختلف أصحابه في تعليل ذلك على قولين : فجعل بعضهم العلة فيه أن ماء الخراج يفيض في أبي حنيفة دجلة البصرة وفي جزرها وأرض البصرة تشرب من مدها ، والمد من البحر ، وليس من دجلة والفرات ، وهذا التعليل فاسد ; لأن المد يفيد الماء العذب من البحر ، ولا يمتزج بمائه ولا تشرب ، وإن كان المد شربها إلا ماء دجلة والفرات .
وقال أصحابه منهم طلحة بن آدم بل العلة فيه أن ماء دجلة والفرات يستقر في البطائح فينقطع حكمه ويزول الانتفاع به ثم يخرج إلى دجلة البصرة فلا يكون من ماء الخراج ; لأن البطائح ليست من أنهار الخراج ، وهذا تعليل فاسد أيضا لأن البطائح بالعراق انبطحت قبل الإسلام فتغير حكم الأرض حتى صارت مواتا ولم يعتبر حكم الماء . وسببه ما حكاه صاحب السير أن ماء دجلة كان ماضيا في الدجلة المعروفة بالغور الذي ينتهي إلى البصرة من المدائن في منافذ مستقيمة المسالك محفوظة الجوانب وكان موضع البطائح الآن أرض مزارع وقرى ذات منازل فلما كان الملك قباء بن فيروز انفتح في أسافل كسكر بثق عظيم أغفل أمره حتى غلب ماؤه وغرق من العمارات ما علاه فلما ولي أنوشروان ابنه أمر بذلك الماء فتزحم بالمسنيات حتى عاد بعض تلك الأرض إلى عمارتها ، وكانت على ذلك سنة ست من الهجرة ، وهي السنة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي إلى رسولا ، وهو كسرى كسرى أبرويز فزادت دجلة والفرات زيادة عظيمة لم ير مثلها فانبثقت بثوقا عظاما اجتهد أبرويز في سكرها حتى صلب في يوم واحد سبعين سكارى وبسط الأموال على الأنطاع فلم يقدر للماء على حيلة ثم ورد المسلمون العراق وتشاغلت الفرس بالحروب فكانت البثوق تنفجر فلا يلتفت إليها ويعجز الدهاقين عن سدها فاتسعت البطيحة وعظمت ، فلما ولي ، رضي الله عنه ولى مولاه معاوية عبد الله بن دراج خراج العراق فاستخرج له من أرض [ ص: 226 ] البطائح ما بلغت غلته خمسة آلاف ألف درهم ، واستخرج بعده حسان النبطي ثم للوليد بن عبد الملك لهشام من بعده كثيرا من أرض البطائح ، ثم جرى الناس على هذا إلى وقتنا حتى صارت جوامدها مثل بطائحها وأكثر ، وكان هذا التعليل من أصحاب مع ما شرحناه من أحوال البطائح عذرا دعاهم إليه ما شاهدوا الصحابة عليه من إجماعهم على أن ما أحيي من موات أبي حنيفة البصرة أرض عشر وما ذاك لعلة غير الإحياء .
وأما فهو عند حريم ما أحياه من الموات لسكنى أو زرع معتبر بما لا تستغني عنه تلك الأرض من طريقها وفنائها ومجاري مائها ومغيضها . وقال الشافعي : حريم أرض الزرع ما بعد منها ولم يبلغه ماؤها . وقال أبو حنيفة : حريمها ما انتهى إليه صوت المنادي من حدودها ، ولو كان لهذين القولين وجه لما اتصلت عمارتان ولا تلاصقت داران وقد مصرت الصحابة رضي الله عنهم أبو يوسف البصرة على عهد رضي الله عنه وجعلوها خططا لقبائل أهلها فجعلوا عرض شارعها الأعظم وهو مربدها ستين ذراعا ، وجعلوا عرض ما سواه من الشوارع عشرين ذراعا ، وجعلوا عرض كل زقاق سبعة أذرع ، وجعلوا وسط كل خطة رحبة فسيحة لمرابط خيلهم وقبور موتاهم وتلاصقوا في المنازل ، ولم يفعلوا ذلك إلا عن رأي اتفقوا عليه ونص لا يجوز خلافه . وقد روى عمر عن بشير بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أبي هريرة } . إذا تدارأ القوم في طريق فليجعل سبعة أذرع